التفاسير

< >
عرض

وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ
٢٢
-الرعد

روح المعاني

.

{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } على كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيما ذكر التكاليف { ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ } طلباً لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجباً، وقيل: المراد طالبين ذلك فنصب { ٱبْتِغَاء } على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له، والكلام في مثل الوجه منسوباً إليه تعالى شهير. وفي «البحر» ((أن الظاهر منه هٰهنا جهة الله تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال: خرج زيد لوجه كذا، وفيه أيضاً أنه جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه، ولذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال، فمن الأول { { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [آل عمران: 173] ومن الثاني { { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [المائدة: 34] ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها.)) وفي "إرشاد العقل السليم" حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه وهو لا يخلو عن شيء، والأولى على ما قيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه.

وعطف قوله سبحانه: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } وكذا ما بعده على ذلك على ما نص عليه غير واحد من باب عطف الخاص العام، والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقاً وهو أولى، ومعنى إقامتها إتمام إركانها وهيآتها { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } بعض ما أعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي ندب { سِرّا } حيث يحسن السر كما في إنفاق من لا يعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من/ الأخذ ظاهراً { وَعَلاَنِيَةً } حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ما ذكر، وقال بعضهم: إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني بأداء الواجب، وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإلا فالأولى أداؤها علانية، وقيل: السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الإمام والأولى الحمل على العموم، ولعل تقديم السر للإشارة إلى فضل صدقته، وجاء في "الصحيح" عد المتصدق سراً من الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم القيامة.

{ وَيَدْرَءونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ } أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وعن ابن جبير يردون معروفاً على من يسيء إليهم فهو كقوله تعالى: { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63] وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وقيل: يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها. وفي الحديث "أن معاذاً قال: أوصني يا رسول الله قال: إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية" وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرَّة الذنب. وقيل: بلا إله إلا الله شركهم، وقيل: بالصدقة العذاب. وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره، وقيل وقيل، ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة:

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

وقال في «الكشف»: الأظهر التعميم أي يدرؤون بالجميل السيء سواء كان لأذاهم أو لا مخصوصاً بهم أو لا طاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال، وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة.

{ أُوْلَـٰئِكَ } أي المنعوتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة، وليس المراد بهم أناساً بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة ـ على ما قيل ـ في الأنصار، واسم الإشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قول سبحانه: { لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة، فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى: { { وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128] وفسرها الزمخشري أيضاً بالجنة إلا أنه قال: لأنها التي أراد الله تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها، وفيه على ما قيل شائبة اعتزال. وجوز أن يراد ـ بالدار ـ الآخرة أي لهم العقبى الحسنة في الدار الآخرة، وقيل: الجار والمجرور خبر اسم الإشارة و { عُقْبَىٰ } فاعل الاستقرار، وأياً ما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في حيز الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالوصول إلى حسن العاقبة. وقال بعضهم: إن المراد مآل أولئك الجنة من غير تخلل بدخول النار فلا بأس لو قيل بالقصر، ولا يلزم عدم دخول الفاسق المعذب الجنة، والقول إنه موصوف بتلك الصفات في الجملة كما ترى. والجملة خبر للموصولات المتعاطفة إن رفعت بالابتداء أو استئناف نحوي أو بياني في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات؟ إن جعلت الموصولات المتعاطفة صفات ـ لأولي الألباب ـ على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر، والأول أوجه لما في "الكشف" من رعاية التقابل بين الطائفتين، وحسن العطف في قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ } [الرعد: 25] وجريهما على استئناف الوصف للعالم ومن هو كأعمى.