التفاسير

< >
عرض

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ
٢٣
-الرعد

روح المعاني

وقوله سبحانه:/ { جَنَّـٰتُ عَدْنٍ } بدل من { { عقبى الدار } [الرعد: 22] كما قال الزجاج بدل كل من كل، وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون مبتدأ خبره قوله تعالى: { يَدْخُلُونَهَا } وتعقب بأنه بعيد عن المقام، والأولى أن يكون مبتدأ محذوف كما ذكر في «البحر» ورد بأنه لا وجه له لأن الجملة بيان لعقبى الدار فهو مناسب للمقام، والعدن الإقامة والاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر أي جنات يقيمون فيها، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: { جَنَّـٰتُ عَدْنٍ } بطنان الجنة أي وسطها، وروي نحو ذلك عن الضحاك إلا أنه قال: هي مدينة وسط الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، وجاء فيها غير ذلك من الأخبار، ومتى أريد منها مكان مخصوص من الجنة كان البدل بدل بعض من كل. وقرأ النخعي { جَنَّةُ } بالإفراد، وروي عن ابن كثير وأبـي عمرو { يَدْخُلُونَهَا } مبنياً للمفعول.

{ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم { وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ } وهو كما قال أبو البقاء عطف على المرفوع في ـ يدخلون ـ وإنما ساغ ذلك مع عدم التأكيد للفصل بالضمير الآخر، وجوز أن يكون مفعولاً معه. واعترض بأن واو المعية لا تدخل إلا على المتبوع. ورد بأن هذا إنما ذكر في مع لا في الواو وفيه نظر، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهليهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعاً لهم تعظيماً لشأنهم. أخرج ابن أبـي حاتم وأبو الشيخ عن ابن جرير قال: يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أمي أين ولدي أين زوجتي؟ فيقال: لم يعملوا مثل عملك فيقول: كنت أعمل لي ولهم ثم قرأ الآية، وفسر { من صلح } بمن آمن وهو المروي عن مجاهد وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر ذلك الزجاج بمن آمن وعمل صالحاً، وذكر أنه تعالى بين بذلك أن الأنساب لا تنفع إذا لم يكن معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة. ورد عليه الواحدي فقال: الصحيح ما روي عن ابن عباس لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة فلو دخلوها بأعمالهم لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحاً في عمله فهو يدخل الجنة. وضعف ذلك الإمام بأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة فإذا بشر الله تعالى المكلف بأنه إذا دخل الجنة يحضر معه أهله يعظم سروره وتقوى بهجته. ويقال: إن من أعظم سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله تعالى على الخلاص منها، ولذلك حكى سبحانه عن بعض أهل الجنة أنه يقول: { { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [يس:26-27] وعلى هذا لا تكون الآية دليلاً على أن الدرجة تعلو بالشفاعة.

ومنهم من استدل بها على ذلك على المعنى الأول لها. وتعقب بأنها أيضاً لا دلالة لها على ما ذكر. وأجيب بأنه إذا جاز أن تعلو بمجرد التبعية للكاملين في الإيمان تعظيماً لشأنهم فالعلو بشفاعتهم معلوم بالطريق الأولى. وقال بعضهم: إنهم لما كانوا بصلاحهم مستحقين لدخول الجنة كان جعلهم في درجتهم مقتضى طلبهم وشفاعتهم لهم بمقتضى الإضافة. والحق أن الآية لا تصلح دليلاً على ذلك خصوصاً إذا كانت الواو بمعنى مع فتأمل، والظاهر أنه لا تمييز بين زوجة وزوجة وبذلك صرح الإمام ثم قال: ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه. وما روي عن سودة أنها لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك كالدليل على/ ما ذكر. واختلف في المرأة ذات الأزواج إذا كانوا قد ماتوا عنها فقيل: هي في الجنة لآخر أزواجها. ويؤيده كون أمهات المؤمنين زوجاته صلى الله عليه وسلم فيها مع كون أكثرهن كن قد تزوجن قبل بغيره عليه الصلاة والسلام. وقيل: هي لأول أزواجها كامرأة أخبرها ثقة أن زوجها قد مات ووقع في قلبها صدقه فتزوجت بعد انقضاء عدتها ثم ظهرت حياته فإنها تكون له. وتعقب بأن هذا ليس من هذا القبيل بل هو يشبه ما لو مات رجل وأخبر معصوم كالنبـي بموته فتزوجت امرأته بعد انقضاء العدة ثم أحياه الله تعالى وقد قالوا في ذلك: إن زوجته لزوجها الثاني. وقيل: إن الزوجة تخير يوم القيامة بين أزواجها فمن كان منهم أحسنهم خلقاً معها كانت له وارتضاه جمع. وقرأ ابن أبـي عبلة { صَلَح } بضم اللام والفتح أفصح؛ وعيسى الثقفي { ذُرّيَّتَهُم } بالتوحيد.

{ وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ } من أبواب المنازل. أخرج ابن أبـي حاتم عن أنس بن مالك أنه قرأ الآية حتى ختمها ثم قال: "إن المؤمن لفي خيمة من درة مجوفة ليس فيها جذع ولا وصل طولها في الهواء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ومال لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب منها سبعون ألفاً من الملائكة مع كل ملك هدية من الرحمن ليس مع صاحبه مثلها لا يصلون إليه إلا بإذن بينه وبينهم حجاب" وروي عن ابن عباس ما هو أعظم من ذلك. وقال أبو [بكر] الأصم: أريد من كل باب من أبواب البر كـباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر، وقيل: من أبواب الفتوح والتحف، قيل: فعلى هذا المراد بالباب النوع و { مِنْ } للتعليل، والمعنى يدخلون لإتحافهم بأنواع التحف، وتعقب بأن في كون الباب بمعنى النوع كالبابة نظراً فإن ظاهر كلام "الأساس" وغيره يقتضي أن يكون مجازاً أو كناية عما ذكر لأن الدار التي لها أبواب إذا أتاها الجم الغفير يدخلونها من كل باب فأريد به دخول الأرزاق الكثيرة عليهم وأنها تأتيهم من كل جهة وتعدد الجهات يشعر بتعدد المائتيات فإن لكل جهة تحفة.