التفاسير

< >
عرض

يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
-إبراهيم

روح المعاني

{ يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ } الذي ثبت [بالحجة] عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة، والظاهر أن الجار متعلق ـ بيثبت ـ وكذا قوله سبحانه: { في ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الاخدود ولجرجيس وشمسون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم { وَفِي ٱلآخِرَةِ } أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال. وأخرج ابن أبـي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له: من ربك؟ قال: ربـي الله. قالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام: قال: ومن نبيك؟ قال: نبـيي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالمراد من الآخرة يوم القيامة. وأخرج الطبراني في "الأوسط" وابن مردويه عن أبـي سعيد الخدري قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: { يُثَبّتُ ٱللَّهُ } الخ في الآخرة القبر» وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض؛ وكأن الداعي لذلك عموم { ٱلَّذِينَ آمَنوا } وشمولهم لمؤمني الأمم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر، وجوز تعلق الجار الأول ـ بآمنوا ـ على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه سبحانه، وكذا جوز تعلق الجار الثاني ـ بالثابت ـ ومن الناس من زعم أن الثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة الجنة والثواب لا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال، وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين.

{ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم الناشىء عن سوء استعدادهم، والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم ـ بالذين آمنوا ـ ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه، وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة، واضلالهم ـ على ما قيل ـ في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل. وأخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره فإذا دخل قبره أقعد فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئاً وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له: من/ الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً فذلك قوله تعالى: { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ }.

{ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء } من تثبيت بعض واضلال بعض آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك، وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه ـ كما قيل ـ من الإيذان بالتفاوت في مبادىء التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر، وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها.