التفاسير

< >
عرض

قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ
٣١
-إبراهيم

روح المعاني

{ قُل لّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وخصهم بالإضافة إليه تعالى رفعاً لهم وتشريفاً وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها، وترك العطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهم تهديداً وغيره، ومقول القول على ما ذهب إليه المبرد والأخفش والمازني محذوف دل عليه { يقيموا } أي قل لهم: أقيموا الصلاة وأنفقوا. { يُقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب { قل } عندهم. وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام: أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا، ومن هنا قالوا: إن في ذلك إيذاناً بكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال، ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر، على أن مبنى الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع. وجعل ابن عطية ـ قل ـ بمعنى بلغ وأد الشريعة والجزم في جواب ذلك وهو قريب مما تقدم.

وحكي عن أبـي علي وعزي للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف، وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين: الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط اما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك: قم تقم إذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا. والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. وقيل عليه: إن الوجه الأول قريب، وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول: قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال.

/ وعن أبـي علي وجماعة أن { يقيموا } خبر في معنى الأمر وهو مقول القول. ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف، ومنه قوله تعالى: { { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم } إلى قوله سبحانه: { { تُؤْمِنُونَ } [الصف: 10-11] إذ المراد منه آمنوا، والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد وما لم يبن إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه، وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أنه مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى:

محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا

وأنت تعلم أن إضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم { قُلْ } نائب منابه؛ كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك، والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه، منه حذف الجار من أنى إذا كانت بمعنى من أين، وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة، وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب: قليل وكثير ومتوسط، فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية، والمتوسط ما تقدمه قول غير أمر كقوله:

قلت لبواب لديه دارها تيذن فإني حمها وجارها

والقليل ما سوى ذلك. وظاهر كلام "الكشف" اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه: والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الإضمار، وان تقييد الجواب بقوله تعالى: { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ } إلى { وَلاَ خِلَـٰلٌ } ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به، وقال ابن عطية: ويظهر أن مقول القول { { ٱللَّهِ ٱلَّذِى } } [إبراهيم: 32] الخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك، على أنه لا يصح حينئذ أن يكون { يُقِيمُواْ } مجزوماً في جواب الأمر لأن قول { { ٱللَّهِ ٱلَّذِى } [إبراهيم: 32] الخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً هذا، والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضاً كانت أو تطوعاً، وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال. ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وأن هذه السورة كلها مكية عند الجمهور، والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض، ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأموراً به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأموراً به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل.

{ سِرّا وَعَلاَنِيَةً } منتصبان على المصدرية لكن من الأمر المقدر أو من الفعل المذكور على ما ذهب إليه الكسائي ومن معه على ما قيل، والأصل إنفاق سر وإنفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه، ويجوز أن يكون الأصل إنفاقاً سراً وإنفاقاً علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية أما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانية، وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية.

{ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدي به نفسه، والمقصود ـ كما قال بعض المحققين ـ نفي عقد لمعاوضة بالمرة، وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقد إذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الإيجاب من البائع انتهى، وقيل: إن البيع كما يستعمل في إعطاء المثمن وأخذ الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في إعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء؛ وعلى هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم:/ "لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه" ولا مانع من إرادة المعنيين هنا، فإن قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه مطلقاً كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك وإلا احتجنا إلى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل: لا معاوضة فيه.

{ وَلاَ خِلَـٰلٌ } أي مخالة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال، وقال الأخفش: هو جمع خليل كأخلاء وأخلة، والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به، ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى، فعلى الأول المنفي البيع والخلال في الآخرة، وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال الذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما، و { فِيهِ } ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا إليه، ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى: { { ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] حيث أثبت فيه المخالة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ما قيل نفي المخالة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات. وقيل: في التوفيق بين الآيتين: إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في الله تعالى، مع أن الاستثناء من الإثبات لا يلزمه النفي وإن سلم لزومه فنفي العداوة لا يلزم منه المخالة وهو كما ترى؛ ومثله ما قيل: إن الإثبات والنفي بحسب المواطن. والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالأمر المقدر، وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأي الكسائي ومن معه بل وبعض من رأى غير ذلك إلا أنه لا يخلو عن شيء، وتذكير إتيان ذلك اليوم على ما في "إرشاد العقل السليم" لتأكيد مضمون الأمر من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعاً وانقطاع آثار البيع والخلال والواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل الله تعالى أو من حيث أن ادخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالباً للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص أمر الإنفاق بذلك التأكيد لميل النفوس إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به. وفيه أيضاً أنه لا يبعد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضاً من حيث أن تركها كثيراً ما يكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى: { { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] وأنت تعلم بعده لفظاً بناء على تعلق { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } بالأمر بالإنفاق، ثم إن ما ذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين، واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني، وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الإنفاق حسبما بينه في "الكشف"، وفيه تقرير الحاصل أن قوله تعالى: { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَـٰلٌ } أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما أنفق لوجه الله تعالى فهو حث على الإنفاق لوجهه سبحانه كأنه قيل: لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بانفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك، والعدول إلى ما في النظم الجليل ليفيد الحصر وإن ذلك وحده هو المنتفع به، وليفيد المضادة بين ما ينفع عاجلياً وما ينفع آجلياً، وذكر في آية البقرة [254] { { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به، وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحة جريانهما جميعاً في/ كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه على الإنفاق مطلقاً وتصوير أن الإنفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ما هم عليه من الإنفاق ليدوموا عليه فقيل: دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لا ينفع إلا من دام عليه، ولو قيل: دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له اهـ ولا يخلو عن دغدغة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب { لاَّ بَيْعٌ فِيهَا وَلاَ خِلَـٰلٌ } بفتح الاسمين تنصيصاً على استغراق النفي، ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابـي هو على ما قيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال؟

ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكراً لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المخلين أتم إخلال بها فقال عز قائلاً: { ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ... }.