التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٥٢
-إبراهيم

روح المعاني

{ هَـٰذَا بَلَـٰغٌ } أي ما ذكر من قوله سبحانه: { { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً } [إبراهيم: 42] إلى هنا، وجوز أن يكون الإشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو { بَلاَغٌ } والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل: هذا المذكور آنفاً كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع، وأصل البلاغ مصدر بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية، وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى { لِلنَّاسِ } للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله سبحانه: { { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ } [إبراهيم: 44] أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضاً وإن كان ما شرح مختصاً بالظالمين على ما قيل. { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلي، وقال الماوردي: الواو زائدة، وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وإنذار، ولعله تفسير معنى لا إعراب. وقال ابن عطية: أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبراً لهو محذوفاً، وقيل اللام لام الأمر، قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله سبحانه: { وَلِيَذَّكَّرَ } فإنه منصوب لا غير، وارتضى ذلك أبو حيان وقال: إن ما ذكر لا يخدشه إذ لا يتعين عطف { ليذكر } على الأمر بل يجوز أن يضمر له فعل يتعلق به، ولا يخفى أنه تكلف. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه وأحمد بن يزيد السلمي { ولينذروا } بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له قالوا: ولم يعرف لنذر بمعنى علم مصدر فهو كعسى وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها، وقيل: إنهم استغنوا بأن والفعل عن صريح المصدر، وفي "القاموس" ((نذر بالشيء كَفرحَ عَلِمَه فَحَذِرَه وأنذره بالأمر إنذاراً ونذراً ونذيراً أعلمه وحذره)). وقرأ مجاهد وحميد بتاء مضمومة وكسر الذال.

{ وَلِيَعْلَمُواْ } بالنظر والتأمل بما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما تضمنه ما أشار إليه { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } لا شريك له أصلاً، وتقديم الإنذار لأنه داع إلى التأمل المستتبع للعلم المذكور { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلألْبَـٰبِ } أي ليتذكروا شؤون الله تعالى ومعاملته مع عباده ونحو ذلك فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم لديه عز وجل من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي تخصيص التذكر بأولي الألباب إعلاء لشأنهم. وفي "إرشاد العقل السليم" أن في ذلك تلويحاً باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سيق للمؤمنين أيضاً فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة، وللبحث فيه مجال، وفيه أيضاً أنه حيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمراً حادثاً وبالنسبة إلى أولي الألباب الثبات على ذلك عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر وروعي ترتيب الوجود مع ما/ فيه من الختم بالحسنى. وذكر القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب. تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار إليه بالإنذار واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى المشار إليه بالعلم، واستصلاح القوة التي هي التدرع بلباس التقوى المشار إليه بالتذكر، والظاهر أن المراد بأولي الألباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقاً، ولا يقدح في ذلك ما قيل: إن الآية نزلت في أبـي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيراً ما جاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى: { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } معطوف على قوله سبحانه: { { لّتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ } [إبراهيم: 1] وهو من البعد بمكان، نسأله سبحانه عز وجل أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً } قال ابن عطاء: أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمناً من الفراق والحجاب، وقيل: اجعل بلد قلبـي ذا أمن بك عنك { { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35] من المرغوبات الدنية والمشتهيات الحسية. وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة، وعنه أنه قال: أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمناً من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان ضمنه فاستعاذ من ذلك. وقال الجنيد قدس سره: أي امنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار، وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه، وجاء النفس هو الصنم الأكبر { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ } بالتعلق بها والانجذاب إليها والاحتجاب بها عنك سبحانك { فَمَن تَبِعَنِى } في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك { فَإِنَّهُ مِنّى } طينته من طينتي وقلبه من قلبـي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربـي { وَمَنْ عَصَانِى } وفعل ما يقتضي الحجاب عنك { فإنك غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم: 36] فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك. قيل: إن هذا منه عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بإفاضة الكمال عليه بعد المغفرة. ومن كلام نبينا صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" . وفي "أسرار التأويل" أنه عليه السلام أشار بقوله: { وَمَنْ عَصَانِى } إلى مقام الجمع ولذا لم يقل: ومن عصاك ويجوز أن يقال: إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن، وما من دابة إلاّ وربـي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عز وجل وأجله من أن يثبت أن أحداً يجترىء على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال { فَمَن تَبِعَنِى } { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } قيل: إن من عادة الله تعالى أن يبتلي خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عز وجل، وناداه باسم الرب طمعاً في تربية عياله وأهله بألطافه وايوائهم إلى جوار كرامته { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } تميل بوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك، قال ابن عطاء من انقطاع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في/ قلوبهم، وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لمّا قطع أهله عن الخلق والأسباب قال: { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ } قيل: أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة. وقال الواسطي: ثمرات القلوب وهو أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال: { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37] أي يعلمون أنه لا يتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وثمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الاشجار تزيل أمراض النفوس. وقيل: أي أرزقهم الأولاد الأنبياء والصلحاء، وفيه إشارة إلى دعوته بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم المعنى له بقوله: { { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [البقرة: 129] وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة والسلام ثمرة الشجرة الإبراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو صلى الله عليه وسلم ثمرة شجرة الوجود ونور حديقة الكرم والجود ونور حدقة كل موجود صلى الله عليه وسلم عليه إلى اليوم المشهود { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } قال الخواص: ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك. وقال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الآداب، وقيل: ما نخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك، وأيضاً ما نخفي من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك، وأيضاً ما نخفى من حقائق الشوق إليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا بإجراء العبرات وتصعيد الزفرات:

وارحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإن همو كتموا تحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح

وقال السيد على البندنيجي قدس سره:

كتمت هوى حبيه خوف إذاعة فلله كم صب أضربه الذيع
ولكن بدت آثاره من تأوهي إذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع

{ { وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَىْء فَى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } [إبراهيم: 38] فيعلم ما خفي وما علن { { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَـٰرُ } [إبراهيم: 42] قيل: الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الأنانية زاعماً أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجي بحر الفناء، توعده الله تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الأكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لا يقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب:

إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى

وقوله سبحانه: { { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [إبراهيم: 43] شرح لأحوال أصحاب الأبصار الشاخصة وهم سكارى المحبة على الحقيقة، قال ابن عطاء في: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } هذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } طلبوا تدارك ما فات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات، ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى الصبر وهو قوله سبحانه: { { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ } [إبراهيم: 44] الآية { { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم: 48] وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء إلا وجهه. وقيل: الإشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سمٰوات الأرواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بإفاضة الصفات الحقة، وقيل: تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب، وسماء القلب بسماء السر، وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب، وسماء السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات { { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [إبراهيم: 49] بسلاسل الشهوات { سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ } وهو قطران أعمالهم النتنة { وَتَغْشَىٰ } تستر { { وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } [إبراهيم: 50] في جهنم الحرمان وسعير الإذلال والاحتجاب عن رب الارباب. { هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } [إبراهيم: 52] وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة، جعلنا الله تعالى وإياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنه سبحانه وكرمه.