التفاسير

< >
عرض

لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
١٥
-الحجر

روح المعاني

{ لَقَالُواْ } لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: { إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَـٰرُنَا } أي سدت ومنعت من الإبصار حقيقة وما نراه تخيل لا حقيقة له، أخرج ابن أبـي حاتم وغيره عن مجاهد، وروي أيضاً عن ابن عباس وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان: بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد: السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء:

غناؤنا فيه ألحان السكور إذا قل الغناء ورنات النواعير

ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد { سُكّرَتْ أَبْصَـٰرُنَا } بتخفيف الكاف مبنياً للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضم ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر:

سكران سكر هوى وسكر مدامة أنى يفيق فتى به سكران

والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكي تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في إحساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري { سكرت } بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنياً للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف ففيه فتح الكاف. واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكراً إذا ركدت ويقال: ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى. وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا.

{ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب أنهم أرادوا أولاً سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه ثم أضربوا عن الحصر في الإبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيراً فأورد عليه بأن { إِنَّمَا } إنما تفيد الحصر في المذكور آخراً وحينئذ يكون المعنى ما تقدم وهو مبني على أن تقديم المقصور على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في "شرح التخليص" إنه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا: إنما زيداً ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب:

صفاته لم تزده معرفة لكنها لذة ذكرناها

أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه. نعم نقل عن "عروس الأفراح" أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك: إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لانفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مطرداً وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن "عروس الأفراح" في إنما قمت من أنه/ لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لانفصل يخالفه ما في "شرح المفتاح الشريفي" من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك: إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق:

أنا الذائد الحامي الذمار وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

وإن لم يذكر احتمل الوجوب طرداً للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظراً إلى المعنى والاتصال نظراً إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظياً اهـ فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وإن لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في "شرحه" وجوب الانفصال مطلقاً وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقوم ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي. وأبو حيان مع طائفة يسيرة من النحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا: إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. ووجه الشهاب الإضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه إضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن مستمرون عليها في كل ما يرينا من الآيات.

هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر بن المنير في المراد منها وجهاً بعيداً جداً فيما أرى فقال: المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك [ذلك] في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الإعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى [من الآن] ـ وهم في مهلة وإمكان ـ أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } الخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وشيمتهم اللدد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان... لقالوا بعد الإيضاح العظيم: إنما سكرت أبصارنا وسحرنا [محمد] وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلاً لهم وليس بهم إلا العناد [واللدد] والإصرار لا غير اهـ فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ثم أنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية فقال عز قائلاً: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجًا... }.