التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٠
-النحل

روح المعاني

{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } أي المؤمنين، وصفوا بذلك إشعاراً بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىء من التقوى. { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } أي أنزل خيراً فماذا اسم واحد مركب للاستفهام بمعنى أي شيء محله النصب { بأنزل } و { خَيْراً } مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { خير } بالرفع ـ فما ـ اسم استفهام وذا اسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، و { خَيْرٌ } خبر مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما جملة اسمية، وجعل { ماذا } منصوباً على المفعولية كما مر ورفع { خَيْرٌ } على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأولى، وفي "الكشف" أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب "الكشاف" في هذا المقام إن فائدة النصب مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصاً في المطلوب كما أوثر النصب في/ قوله تعالى: { { إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ } [القمر: 49] لذلك، وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقاً والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.

هذا ولم نجد في السائل هنا خلافاً كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلاً أولاً في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبـي حاتم، فقد أخرج عن السدي قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناساً من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافداً لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [النحل: 24] فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: خيراً الخ، نعم يجوز عقلاً أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيراً ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذاً بمدامة ذكره وتشنيفاً لسمعه بسني دره:

الا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

بل يجوز أيضاً أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم.

{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة { فِى هَـٰذِهِ } الدار { ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17] وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقاً بما بعد أو لا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لإحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقاً بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه: { وَلَدَارُ ٱلآَخِرَةِ خَيْرٌ } والكلام كما يشعر به كلام غير واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب. وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة.

{ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عِدَة منه تعالى الذين اتقوا على قولهم، وهو في الوعد هٰهنا نظير { { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } [النحل: 25] في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون { خَيْرًا }/ مفعول { قَالُواْ } وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كقال قصيده أو صفة مصدر أي قولاً خيراً، وهذه الجملة بدل منه فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } الخ إلا أن الله سبحانه سماه خيراً ثم حكاه كما تقول: قال فلان جميلاً من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما "الكشف" مفعول { أَنَزلَ } ويكون تسميته خيراً من الله تعالى كما قوله سبحانه: { { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } [الزخرف: 9] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه؛ وأما قولهم: «للذين أحسنوا» أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوباً ـ بأنزل ـ لأن هذا القول ليس منزلاً من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشىء من قلة التدبر. وفي "البحر" الظاهر أن { لِلَّذِينَ } الخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضاً، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.