التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
-النحل

روح المعاني

{ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } أي من جميعها، وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجر، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال: إنما تأكل النوار من الأشجار، وتقال الثمرة للشجرة أيضاً كما في «القاموس»، قيل: وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغير مناف للاقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على ما يشير إليه كلام البعض عرفي، وجوز أن يكون مخصوصاً بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، وقيل: { كُلِّ } للتكثير، قال الخفاجي: ولو أبقي على ظاهره أيضاً جاز لأنه لا يلزم/ من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة، وأياً ما ـ فمن ـ للتبعيض.

وقال الإمام: رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار أوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً ثم تقيئه، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا هٰهنا، وأيضاً فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اهـ.

وأنت تعلم أن ظاهر { كُلِى } يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييداً له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة يطلق عليه اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل الندا كما زعم وإن قالوا: هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنبيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكن أغلظ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائمياً، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما روي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل، وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضاً أما العسل فونيم ذباب، وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري:

والنحل يجني المر من زهر الربا فيعود شهداً في طريق رضا به

وقال الحريري:

تقول هذا محجاج النحل تمدحه وإن ترد ذمه قيء الزنابير

وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيراً حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأَكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضاً ما يؤيده.

{ فَٱسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ } أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيـىء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل: المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى { كُلِى } اقصدي الأكل، وقيل: السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل: مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلاً، و { اسلكي } متعد من/ سلكت الخيط في الإبرة سلكاً لا لازم من سلك في الطريق سلوكاً، ومفعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النَّوْر المر عسلاً من أجوافك. وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينياً، ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم { ذُلُلاً } أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروي هذا عن مجاهد. وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلاً على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال: لأن النحل تذهب وتؤب في الهواء وهو ليس طرقاً ذللاً لأن الذلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر. وقال قتادة: أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في { فَٱسْلُكِى }.

{ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت { شَرَابٌ } يعني العسل، وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل: إنه لا يقال: أكلت عسلاً وإنما يقال: شربت عسلاً، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسنداً إليه تعالى اكتفاءاً بإسناد الإيحاء بالمبادي إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث إن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله. و { مِنْ } لابتداء الغاية، وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها، وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، وقيل: من أدبارها وهو ظاهر ما روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه. وقال آخرون: لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى. وحكي أن سليمان عليه السلام والإسكندر وأرسطو صنعوا لها بيوتاً من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئاً حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة، وقال بعضهم: المراد بالبطون الأفواه، وسمي الفم بطناً لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر، وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذراة الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي «الكشف» أن في قوله تعالى: { ثُمَّ كُلِى } إشارة إلى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيراً وهو المختار عند المحققين من الحكماء، ومن جعل العسل نباتياً محضاً وفسر البطون بأفواه النحل فليت شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه: { ثُمَّ كُلِى } وأجيب بأنه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهراً وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلاً والمجتنى من الطل يكون موماً والعقل يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف/ الفصل أو لاختلاف سن النحل، فالأبيض لفتيها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جداً. وتعقب بأنه مما لا دليل عليه، وقد سألت جمعاً ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم: ما علمنا لذلك سبباً إلا هذا بالاستقراء، وحينئذٍ يكون ما ذكر مؤيداً للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.

{ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب، وقيل عليه: إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل: إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلاً ويبلغها منافعها، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلاً في الشفاء، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك. وفي «البحر» أن العسل موجود كثيراً في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اهـ، وفي «شرح الشمائل» أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيراً من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي، ولو يسلم أن السكنجبين الذي هو خل وعسل كما ينبـىء عنه أصل معناه نافع له، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه نقل إلى ما ركب من حامض وحلو، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم. والتنوين في { شِفَآءٌ } إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفى به.

ولا يرد أن اللبن أيضاً كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل: إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدودة التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضاً فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على { شِفَآء لِلنَّاسِ } ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد بن زنجويه عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً إلا جعل عليه عسلاً حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلاً فقلنا له: تداوى الدمل بالعسل؟ فقال: أليس الله تعالى يقول: { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ }؟.

وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد. والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها. وأما ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن مردويه "عن أبـي سعيد الخدري أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلاً فسقاه عسلاً ثم جاء فقال: سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً قال: اذهب فاسقه عسلاً فسقاه عسلاً ثم جاء فقال: ما زاده إلا/ استطلاقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلاً فذهب فسقاه فبرأ" فليس صريحاً في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفي بالعسل. ففي "طبقات الأطباء" أنه إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيها والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولاً بخروجها وتوالى ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرىء، فقوله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله تعالى" يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به، وقوله: "كذب بطن أخيك" يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذباً اهـ. وقال بعضهم: المراد ـ بصدق الله تعالى ـ صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كذب بطن أخيك» من المشاكلة الضدية كقولهم: من طالت لحيته تكوسج عقله، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها، وعلى ذلك قول الأطباء: زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال: إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قول الله تعالى بلسان حاله وهو ناشىء من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضاً فبرىء وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال، ومنه يعلم أن ما فعله النبـي صلى الله عليه وسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشىء عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق.

ونقل عن مجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس والحسن أن ضمير { فِيهِ } للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة، واستحسن ذلك ابن النحاس. وقال القاضي أبو بكر بن العربـي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه: { { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } [النحل: 64] مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه، وقد أخرج الطبراني وغيره عن ابن مسعود "عليكم بالشفاءين العسل والقرآن" .

هذا وقدم سبحانه الإخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعاً وأعظم شأناً وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغنى بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفياً بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى الله عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر لأنها أقرب إلى الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد/ جعلها إداماً كالعسل فإنه كثيراً ما يؤدم به الخبز ويؤكل، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث أن كلاً منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثفله بالفرث، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناءً على ما يقولون: إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعاً رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغاً وبذلك يقوى التضاد، ويقويه أيضاً أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك. وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جداً، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجهاً لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن، فلا يرد أن في كل جهة تقديماً فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى: { { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15] فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور من آثار قدرة الله تعالى { لآيَةً } عظيمة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشرب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعاً أن لها رباً حكيماً قادراً ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع، ولما كان شأنها في ذلك عجيباً يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في "الكشاف" أن المراد بالنحل علي كرم الله تعالى وجهه وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل: جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما، وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة.

ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عزَّ قائلاً: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّـٰكُمْ... }.