التفاسير

< >
عرض

قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً
١٠٧
-الإسراء

روح المعاني

{ قُلْ } للذين كفروا { ءَامِنُواْ بِهِ } أي بالقرآن { أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } أي به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالاً وعدم إيمانكم لا يورثه نقصاً. { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك { إِذَا يُتْلَىٰ } أي القرآن { عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } الخرور السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازاً وكذا يطلق على الوجه تعبيراً بالجزء عن الكل قيل وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على وجوههم.

{ سُجَّدًا } تعظيماً لأمر الله تعالى أو شكراً لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك. والظاهر أن هنا خروراً وسجوداً على الحقيقة، وقيل: لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فأخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية. وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال ((وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به الأرض من وجهه)) وقيل: فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء. وجوز أن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحا على التراب أو أنه ربما خروا على الذقن كالمغشي عليهم لخشية الله تعالى، وقيل: لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى.

وقال صاحب «الفرائد» المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جداً. واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به. ومعنى هذا الاختصاص على ما في «الكشف» أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد عليه. واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله: إن الذقن أول ما يلقى الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب. وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره فمعنى { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } يقعون على الأرض عند التحقيق، والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله:

فخر صريعاً لليدين وللفم

فتأمل. واختار بعضهم كون اللام بمعنى على. وزعم بعض عود ضميري { بِهِ } و{ قَبْلِهِ } على النبـي صلى الله عليه وسلم ويأباه السباق واللحاق. وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير { يُتْلَىٰ } لكتابهم ولا يخفى حاله. والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز { قُلْ } وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى: { ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز { قُلْ } بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم وقد ذكر كلا الوجهين «الكشاف» قال في «الكشف» والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني أظهر والتعليل بقوله سبحانه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } في الأول.

وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه: { قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } إنما جاء للوعيد والمعنى افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا وآمنوا اهـ، وهو بعيد جداً ولا يخلو عن ارتكاب مجاز، وربما يكون في الكلام عليه استخدام.