التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
-الإسراء

روح المعاني

{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة. وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلاً إذ لا يقارنها الجزاء الآتي، ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1] أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب / الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنواً تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين.

{ أَمَرْنَا } بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها { مُتْرَفِيهَا } متنعميها وجباريها وملوكها. وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم بأتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد، ويدل على تقدير الطاعة أن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى: { { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] فيكون نحو أمرته فأساء إليَّ أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق، والنقل كقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء } [الأعراف: 28]، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر.

{ فَفَسَقُواْ فِيهَا } أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى، وقيل: الأمر استعارة للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا نقض بنحو قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافياً للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع. واعترض بأنه لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبان قرينة { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء } [الأعراف: 28] لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر؛ ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى.

وأجاب في «الكشف» عن ذلك فقال: الجواب عن الأولين أن صاحب «الكشاف» منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذٍ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلاً بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة، وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور، والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب.

/ وحكى أبو حاتم عن أبـي زيد أن { أَمَرْنَا } بمعنى كثرنا واختاره الفارسي، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما أخرجه أحمد وابن أبـي شيبة في «مسنديهما» والطبراني في «الكبير» من حديث سويد بن هبيرة "خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة" أي كثيرة النتاج، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر الله تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت، وقيل: إن المكسور يكون متعدياً أيضاً وأنه قرأ به الحسن ويحيـى بن يعمر وعكرمة، وحكى ذلك النحاس وصاحب «اللوامح» عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل. وفي «الكشف» أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في «الفائق» ما معناه: ما عول هذا القائل إلا علىٰ ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضاً كما في الآية كأن الله تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهيه، وقيل: أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "مأزورات غير مأجورات" حيث لم يقل موزورات.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبـي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمرو وعبد الله بن أبـي زيد والكلبـي { آمرنا } بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبـي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبـي عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب، ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة. وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية { أمرنا } بالتشديد، وروي ذلك أيضاً عن علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم وعاصم وأبـي عمرو، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضاً، وقيل: بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر بالضم إلحاقاً له بالسجايا أي صار أميراً والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكاً أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضاً خلافاً للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم.

{ فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } أي كلمة العذاب السابق بحلوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعاً فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل: المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية. وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه: { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [الأنفال: 25] وصح "عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبـي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث" .

هذا والظاهر أن { أَمَرْنَا } جواب { إذا } ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداءً فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداءً من غير استحقاق الإضرار كالإضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه. وأجاب / عنه بعضهم بأنه في الآية تقديماً وتأخيراً والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ } [النساء:102] وآخرون بأن قوله تعالى: { أَمَرْنَا } الخ في موضع الصفة لقرية وجواب { إذا } محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا } إلى قوله سبحانه: { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ } [الزمر: 74] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة:

حتى إذا اسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا

وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.