التفاسير

< >
عرض

مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
-الإسراء

روح المعاني

{ مَن كَانَ يُرِيدُ } أي بعمله كما أخرجه ابن أبـي حاتم عن الضحاك { ٱلْعَاجِلَةَ } فقط من غير أن / يريد معها الآخرة كما ينبـىء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة { كَانَ } هنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمه، وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة، ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك. والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روي عن الضحاك أيضاً وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى: { { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا } [الشورى: 20] وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى: { { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [هود: 15] ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى: { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا } أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة (من) كما في قوله عز وجل: { { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران: 145] { مَا نَشَاء } أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد. { لِمَن نُّرِيدُ } تعجيل ما نشاء له، وقال أبو إسحاق الفزاري: أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية.

والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني { له } فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم، والضمير راجع إلى { من } وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل. وعن نافع أنه قرأ { مَا يَشَاء } بالباء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان، وقيل هو لمن فيكون مخصوصاً بمن أراد الله تعالى به ذلك كنمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجاً له. واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعاً فغير مستحسن كما فصله في «عروس الأفراح». وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه. وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى: { { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [هود: 15] أعمال كلهم ولا كل أعمالهم، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. وذكر المشيئة في أحدهما والإرادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن.

{ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ } مكان ما عجلنا له { جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا } يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل. والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في { لَهُ } وقال أبو حيان: «إنها حال من { جَهَنَّمَ } وهي مفعول أول لجعلنا و { لَهُ } الثاني» وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب «الغنيان» «مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيراً أو جزاء» ولا حاجة إلى ذلك { مَذْمُومًا } حال من فاعل يصلى وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيماً وذأمته ذأماً بمعناه { مَّدْحُورًا } أي مطروداً مبعداً من رحمة الله تعالى. قال الإمام: «إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن [شوب] المنفعة فقوله تعالى: { جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا } إشارة إلى المضرة العظيمة و { مَذْمُومًا } إشارة إلى الإهانة والذم و { مَّدْحُورًا } إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص» اهـ، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذٍ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة.

وفي «إرشاد العقل السليم» «من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بإعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة»، وأنت تعلم أن أدراج / الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمناً في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة، وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى.

وظاهر كلام أبـي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال «العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولا بد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى: { { وَمَنْ أَرَادَ ٱلاْخِرَةَ } [الإسراء: 19] الخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا» إلى آخر ما قال فحكى غير القول الأول الذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل. ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصوراً عليها لا يريد غيرها أصلاً فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها، وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد عن رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق ما دام فيها كما يصدق على الكافر المخلد.

وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه، وفيه أنه يأبـى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم.