التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً
١١٠
-الكهف

روح المعاني

{ قُلْ } بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه { إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } لا أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا { يُوحَىٰ إِلَىَّ } من تلك الكلمات { أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } وإنما تميزت عنكم بذلك، وأن المفتوحة وإن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل { يُوحَىٰ } والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر، والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول { أَنَاْ } والمقصور البشرية مثل المخاطبين، وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة والسلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها صلى الله عليه وسلم مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك، وقيل إن المقصود بأن يقصر عليه الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم على معنى أنه صلى الله عليه وسلم مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون، والمقصور الثاني { إِلْٰهُـكُمُ } أي معبودكم الحق والمقصور عليه الوحدانية المعبر عنها بإلٰه واحد أي لا يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون. وعزم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر افراد وأن المقصور الألوهية مصدر { إِلْٰهُـكُمُ } والمقصور عليه هو الله تعالى المعبر عنه بإلٰه واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق. ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما إلهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إلٰه للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية تغير ذلك. وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر افراد على أن الله تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعاً لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد اشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقل لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المنصف، وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك والله تعالى يتولى هداك.

{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل

ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فأما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعنى على هذا، وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشرى { فَلْيَعْمَلْ } لتحصيل ذلك والفوز به { عَمَلاً صَـٰلِحاً } وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل الخ، وقيل لا حذف، والمراد من توقع البعث فليعمل صالحاً أي أن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه، وقيل: اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف / أيضاً أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل الخ، وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل الخ، وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل الخ، وتفسير الرجال بالطمع أولى، وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى، وعلى هذا فإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحال العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملاً صالحاً في نفسه لائقاً بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

{ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } إشراكاً جلياً كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكاً خفياً كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا، واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن، وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر، ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجهه حينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوة قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً في نفسه ولا يراء بعمله أحداً فيفسده. وكذا ما روي من أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي: إن الله تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقاً له صلى الله عليه وسلم، نعم لا يأبـى ذلك إرادة العموم كما لا يخفى، وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل عمل لغرض دنيوي لا يقبل، فقد أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبـي هريرة عن النبـي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى أنه قال: "أنا خير الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيره فأنا بريء منه وهو للذي أشرك" . وأخرج البزار والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله تعالى ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيراً فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي" ، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن يحيـى بن الوليد بن عبادة أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالاً فله ما نوى" ، وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد عن أبـي أمامة قال: "جاء رجل إلى النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا شيء له ثم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه" إلى غير ذلك من الأخبار.

واستشكل كون السرور بالعمل إشراكاً فيه محبطاً له مع أن الإتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل لله تعالى. وأجيب بما أشار إليه في «الإحياء» من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثاً له على العمل ومؤثراً فيه فسد ما قارنه وأحبطه ثم سرى إلى ما قبله. / وأخرج ابن منده وأبو نعيم في «الصحابة» وغيرهما من طريق السدي الصغير عن الكلبـي عن أبـي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ } الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط.

وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله، فقد روى الترمذي وغيره عن أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه: "أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية" وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثاً له على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بل بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدى به أن يظهر أعماله الحسنة. والظاهر أن النبـي صلى الله عليه وسلم علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلاً على حسب حاله، وما ألطف جوابه عليه الصلاة والسلام لجندب كما لا يخفى على الفطن. وأخرج ابن المنذر وابن أبـي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع الله تعالى إلٰهاً غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي، وأنت تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعاً في الشرك الجلي.

ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالأجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقارىء أصلاً وقد عمت البلوى بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا يتنبهون فإنا لله تعالى وإنا إليه راجعون؛ وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركاً منهياً عنه فقد قال الراغب في «المحاضرات»: إن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضى الله تعالى عنه: لو توليت هذا بنفسك فإن الله تعالى يقول: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والمكروه، والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى، ووجه ذلك على أن كون الإلٰه الحق واحداً يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملاً صالحاً وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل، وقيل الأمر بالعمل الصالح فتفرع على كونه تعالى إلٰهاً والنهي عن الشرك متفرع على كون الإلٰه واحداً، وجعل هذا وجهاً لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى، وقيل: التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم، ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلاً وتركاً. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي { ولا تشرك } بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى: { بِرَبّهِ } التفاتاً أيضاً من الخطاب إلى الغيبة، هذا وعن معاوية بن أبـي سفيان أن هذه الآية { فَمَن كَانَ يَرْجُو } الخ آخر آية نزلت وفيه كلام والحق خلافه والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات: قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب، وقيل: إلى الشيخ الكامل ويأجوج ومأجوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية، وقيل: إشارة إلى القوى / والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بما يشرح الخاطر ويسر الناظر، ولعل الأولى أن يقال: الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والإحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحت به أنفسهم لمصلحتهم. وقد يقال: فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب. وقال الأشاعرة: الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل الله تعالى عقلاً وتحقيق هذا المطلب في محله، وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا } [الكهف: 104] إشارة إلى المرائين على ما في «أسرار القرآن» ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا افتضاحهم فيها وإظهار الله تعالى حقيقة حالهم للناس:

ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم. وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110] إشارة إلى جهة مشاركته صلى الله عليه وسلم للناس وجهة امتيازه ولولا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولولا ذلك الامتياز ما حصلت الاستفاضة. وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس سره إلى ذلك بقوله:

كفت بيغمبركه أصحابي نجوم ره روانرا شمع وشيطان رارجوم
هركسي راكر نظر بوداي زدور كو كرفتي زافتاب جرخ نور
كي ستاره حاجتي بوداي ذليل كي بدى برنوز خورشيدا ودليل
ماه ميكو يدبابر وخاك في من بشر من مثلكم يوحى إلى
جون شماتاريك بودم درنهاد وحى خورشيددم جنين نورى بداد
ظلمتي دارم به نسبت باشموس نور دارم بهر ظلمات نفوس
زان ضعيفم تاتوبابي أورى كه ني مردى افتاب انوري

هذا ونسأل الله تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم صلى الله عليه وسلم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه.