التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٧
-الكهف

روح المعاني

{ وَٱتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَـٰبِ رَبّكَ } ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم ودل اشتمال القرآن عليها على / أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه { وَٱتْلُ } الخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقاً ولا تكترث بقول من يقول لك { { ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ } [يونس: 15]. وجوز أن يكون { ٱتْلُ } أمراً من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك والزم العلم به. وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحى إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحداً منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي. والمراد بما أوحي الخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف، وقيل: متعلق بقوله تعالى: { { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } [الكهف: 26] أي قل لهم ذلك واتل عليهم إخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي الخ ما تضمن هذا الإخبار، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى.

{ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ } لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما يشاء ويثبت، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل: إن التبديل واقع لقوله تعالى: { { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً } [النحل: 101] الآية. والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها، ومن هنا قال الطبرسي: المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى. لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالأخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر. وقول الإمام: إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً توهم لا يقتدى به.

ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد. والضمير على ما يظهر من «مجمع البيان» للكتاب، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه:

{ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة، وقال الإمام في «البيان والإرشاد»: وأصله من الالتحاد بمعنى الميل، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدراً، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري:

يا لهف نفسي ولهف غير مجدبة عني وما عن قضاء الله ملتحد

ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه. ثم إذا كان المعني بالخطاب سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى. نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه.

/ هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ } قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلى الله عليه وسلم في أعلى مراقيه، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حراً عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلى الله عليه وسلم { { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف: 1] { قَيِّماً } قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على { ٱلْكِتَـٰبِ } وجعله بعض أهل التأويل عائداً على { عَبْدِهِ } أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافاً عن جنابه وميلاً إلى ما سواه وجعله مستقيماً في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى { { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } [هود: 112] أمر تكوين { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ } وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب { { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15] { وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق { { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } [الكهف: 2] وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب { فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه وسلم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ } من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات { زِينَةً لَّهَا } أي لأهلها { { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7] فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء: حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال الجنيد: حسن العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم: أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليه بالحرمة. { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [الكهف: 8] كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى { { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءايَـٰتِنَا عَجَبًا } [الكهف: 9] قال الجنيد قدس الله سره: أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك. { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه { فَقَالُواْ } حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة { رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } معرفة كاملة وتوحيداً عزيزاً { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } [الكهف: 10] بالوصول إليك والفناء فيك { { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ ءاذَانِهِمْ فِى ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } [الكهف: 11] كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه { ثُمَّ بَعَثْنَـٰهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا } [الكهف: 21] إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضاً: هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ } الإيمان العلمي { { وَزِدْنَـٰهُمْ هُدًى } [الكهف: 13] بأن أحضرناهم وكاشفناهم { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضاً: رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين. { إِذْ قَامُواْ } بنا لنا { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } [الكهف: 14] كلاماً بعيداً عن الحق مفرطاً في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس: وهو استدلال / ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق. وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجيء في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بل لعمري إن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ } أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوى { فَأْوُواْ إِلَى ٱلْكَهْفِ } فاخلوا بمحبوبكم { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ } مطوي معرفته { { وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } [الكهف: 16] ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين: العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصول إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكاناً قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة. وفي «أسرار القرآن» أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها. وفي الحديث "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره" وقيل في تأويله: إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبـى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى. وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولا يتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا } [الكهف: 17] لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء: هم مقيمون في الحضرة كالنومي لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون { وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشّمَالِ } أي ننقلهم من عالم إلى عالم؛ وقال ابن عطاء: نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر: نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل { وَكَلْبُهُمْ بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم. وقل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي { لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ } أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي { فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } [الكهف: 18] كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوباً من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.

{ وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَـٰهُمْ } رددناهم إلى الصحو بعد السكر { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل:

أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا

ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } والإشارة فيه أولاً: إلى أن اللائق بطالبـي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانياً: إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم: { بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ } فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروى فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثاً: إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأحل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلاً من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعاً بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفىء حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعاً: إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم: { وَلْيَتَلَطَّفْ } بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه. وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل: أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئاً من الطعام فليكن لطيفاً وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كلما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المؤكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعماً ويأكل لطيفاً. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمراً اتفاقياً، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبـي صلى الله عليه وسلم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في «الكتب الصحيحة» حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } [الكهف: 19] أي من / الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } بأحجار الإنكار { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان { { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } [الكهف: 20] لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضاً ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يخبر صلى الله عليه وسلم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها. { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: { { وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا } [الكهف: 24] إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سحبانه لك قبل أن تذكره جل وعلا { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } [الكهف: 25] زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهراً وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من «الشفاء» أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى. وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيراً من عباده بلا واسطة في سويعات { لَهُ } تعالى شأنه { غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } عالم العلو { وٱلأَرْضِ } عالم السفل، ولا يخفى أن عنوان الغيبية إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله؛ ومن هنا قال بعضهم: إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم، لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهراً من مصادمة الآيات. وإلى الله تعالى نشكو أقواماً ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته { مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ } إذ لا فعل لأحد سواه تعالى { { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } [الكهف: 26] لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.