التفاسير

< >
عرض

قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً
٤٧
-مريم

روح المعاني

{ قَالَ } استئناف كما سلف { سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك، وهو نظير ما في قوله تعالى: { لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ } [القصص: 55] في قوله، وقيل: هو تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى: { { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ } [الممتحنة: 8] الآية، وقوله سبحانه: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرٰهِيمَ } [الممتحنة: 4] الآية، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في «صحيح مسلم»: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام" وقرىء { سَلاَماً } بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء.

{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } أي أستدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله: { وَٱغْفِرْ لأَِبِى } بقوله: { إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّالّينَ } [الشعراء: 86] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله: ربـي اهده إلى الإيمان وأخرجه من الضلال. / والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه كما أنه لا ريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا تبين له عليه السلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة [114] أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبين وبذلك فارق استغفاره عليه السلام لأبيه استغفار المؤمنين لأولي قرابتهم من المشركين لأنه كان بعد التبين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السلام في الاستغفار، قال العلامة الطيبـي: إنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه: { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } [الممتحنة: 1] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل: { { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } [الممتحنة: 2] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَـٰمُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [الممتحنة: 3] ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَآء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } [الممتحنة: 4] إلى قوله تعالى شأنه: { { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرٰهِيمَ لأَِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [الممتحنة: 4] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولاتبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السلام لأبيه في قوله { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.

واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولي قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبين كان كاستغفار إبراهيم عليه السلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للإيمان، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله تعالى: { { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 113] الآية نزل في استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبـي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلاً وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة والسلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضاً أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الإيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلى الله عليه وسلم بل وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.

وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا: أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله: { { وَٱغْفِرْ لأَِبِى } [الشعراء: 86] لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [التوبة: 114] ثم قال: ولقائل أن يقول: الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأما قضية العقل فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السلام { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } في آية { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرٰهِيمَ } [الممتحنة: 4] الخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الإيمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره { وعدها أباه } [التوبة: 114] بالباء الموحدة، قال في «الكشف»: / واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبـي صلى الله عليه وسلم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السلام كان منكراً بل إنما هو منكر علينا لورود السمع.

واعترض صاحب «التقريب» بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت في الأسوة بدل عما وجبت الخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكراً ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسى به فيه لكان أسوة قبيحة، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخراً: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ } [الممتحنة: 6] كما تقرر في الأصول. والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السلام يدل على أنه ليس منكراً في نفسه وقوله تعالى: { { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ للمُشْركِينَ } [التوبة: 113] الخ يدل على أنه الآن منكر سمعاً وأنه كان مستنكراً في زمن إبراهيم عليه السلام أيضاً بعدما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل انه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل: إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير.

واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السلام بعدما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام فعله لعمه أبـي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسلام، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للإيمان مما لا محذور فيه عقلاً ونقلاً وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلاً مما لا مساغ له عقلاً ونقلاً، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين، وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالإيمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثاً مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز وجل، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل.

واستدل على جواز ذلك عقلاً بقوله صلى الله عليه وسلم لعمه: "لا أزال أستغفر لك ما لم أنه" فنزل قوله تعالى: { { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 113] الآية، وحمل قوله تعالى: { { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } [التوبة: 113] على معنى من بعدما ظهر لهم أنهم ماتوا كفاراً والتزم القول بنزول قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48] بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه بعد العلم بموته كافراً وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام ولوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك فتأمل، فالمقام / محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق.

{ إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } بليغاً في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه. والجملة تعليل لمضمون ما قبلها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام.