التفاسير

< >
عرض

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
٦٤
-مريم

روح المعاني

{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليه، فقد روي أنه احتبس عنه صلى الله عليه وسلم أياماً حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون: إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسلام: يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى قاله غير واحد، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي. وفي «الكشف» وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السلام تثبيتاً له صلى الله عليه وسلم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الإخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وإن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفاً له ولأمته صلى الله عليه وسلم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى: { فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } [مريم: 65] وفيه أنك لا ينبغي أن تكترث بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيداً، وعطف عليه مقالة الكفار بياناً لتباين ما بين المقالتين وما عليه الملك المعصوم والإنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى، ولا يأبـى ما تقدم في سبب النزول ما أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام: / ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ }" لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضاً واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة، وقيل: يجوز أن يكون النزول متكرراً نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وقال بعضهم: إن التقدير هذا، وقال جبريل: وما نتنزل الخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا محصل له. وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السلام أولاً { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّاً } [مريم: 19] وهو قول نازل عن درجة القبول جداً، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، وعلى ذلك قوله:

فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب

إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر، والمعنى ما نتنزل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته سبحانه.

وقرأ الأعرج { وما يتنزل } بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السلام، وقيل: إن الضمير له عليه السلام والكلام له عز وجل أخبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلاً: { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما قدامنا من الزمان المستقبل { وَمَا خَلْفَنَا } من الزمان الماضي { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ } المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره سبحانه ومشيئته عز وجل، وقال ابن جريج: ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مدة الحياة، وقال أبو العالية: ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وفي كتاب «التحرير والتحبير» ما بين الأيدي الآخرة وما خلف الدنيا ورواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان، وقال الأخفش: ما بين الأيدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة فالماآت على هذه الأقوال من الزمان. وقال صاحب «الغنيان»: ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء، وقيل: ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل: ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالماآت من الأمكنة، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل. وقال البغوي: المراد له علم ما بين أيدينا الخ أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى. واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكاً وعلماً.

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي تاركاً أنبياءه عليهم السلام ويدخل صلى الله عليه وسلم في ذلك دخولاً أولياً أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة، وقيل: النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لإحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإِنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جل شأنه، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع / أن الأول هو الأوفق لسبب النزول. ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته، وكثيراً ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافاً إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بعلة الحكم ما لا يخفى، وقال أبو مسلم وابن بحر: أول الآية إلى { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ } من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله، وقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } تقرير من جهته تعالى لقولهم أي وما كان سبحانه تاركاً لثواب العاملين أو ما كان ناسياً لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر خلاف الظاهر. وأيضاً مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبـي صلى الله عليه وسلم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيداً لما بعده، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } إذ لم يقل ربهم. وأيضاً لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه. وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض.