التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
-البقرة

روح المعاني

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا ءامَنَّا } الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى: { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } [إبراهيم: 37] أي اجعل هذا المكان القفر بلداً الخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [35] { { رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا } ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسؤول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسؤول أولاً: مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانياً: الأمن المعهود، ولك أن تجعل { هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ } في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ } [إبراهيم: 37] الخ فتطابق الدعوتان حينئذٍ؛ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلداً والمطلوب كونه آمناً على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلداً كاملاً في الأمن كأنه قيل: اجعله بلداً معلوم الاتصاف بالأمن مشهوراً به كقولك كان هذا اليوم يوماً حاراً، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: { { فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [القارعة: 7] وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمناً أهله فأسند { مَا } للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالاً، أو من أن يخلو من أهله أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجذب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه ـ كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي والقرامطة وغيرهم ـ وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان/ غرضه شيئاً آخر لا يجدي نفعاً كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل:

إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر

وكان النداء بلفظ الرب مضافاً لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.

{ وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ } أي من أنواعها بأن تجعل قريباً منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجىء إليه من الأقطار الشاسعة ـ قد حصل كلاهما ـ حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول البيت سبعاً فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله؛ وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهاراً للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيراً ما يقوم مقام جمع الكثرة، و { مِنَ } للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس. { مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } بدل من { أَهْلَهُ } بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به.

{ قَالَ } أي الله تعالى. { وَمَن كَفَرَ } عطف على { مَنْ ءامَنَ } أي ـ وارزق من كفر أيضاً ـ فالطلب بمعنى الخبر على عكس { وَمِن ذُرّيَتِى } [البقرة: 124] وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع { { لاَ يَنَالُ } [البقرة: 124] الخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضياً عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في «البحر» من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير: قال إبراهيم وارزق فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي ـ أرزق من آمن ومن كفر ـ بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون { مَنْ } مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى: { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } على الأول: معطوف على { كُفِرَ } وعلى الثاني: خبر للمبتدأ ـ والفاء ـ لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير ـ أنا ـ لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحساناً، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سبباً للتمتع المطلق لكنه يصلح سبباً لتقليله وكونه موصولاً بعذاب النار ـ وقليلاً ـ صفة لمحذوف أي متاعاً أو زماناً قليلاً.

وقرأ ابن عامر { فَأُمَتِّعُهُ } مخففاً على الخبر، وكذا قرأ يحيـى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبـيّ ـ فنمتعه ـ بالنون وابن عباس ومجاهد { فَأُمَتِّعُهُ } على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في { قَالَ } عائداً إلى إبراهيم وحسن إعادة { قَالَ } طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه أخذ في كلام آخر وكونه عائداً إليه تعالى ـ أي: قال الله فأمتعه يا قادر يا رازق خطاباً لنفسه على طريق التجريد ـ بعيد جداً لا ينبغي أن يلتفت إليه.

{ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادراً من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلاً مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبِكِلاَ المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول قوله تعالى: { { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور: 13] و { يُسْحَبُونَ فِى ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [القمر: 48] و { فيؤخذ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلأَقْدَامِ } [الرحمٰن: 41] ويؤيد الثاني قوله تعالى: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا } [الزمر: 71] { وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71] الآية و { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعاً به وقوعاً محققاً حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضاً كأنه شبه حال الكافر الذي أدَرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلاً إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهراً حمل (ثم) على التراخي الرتبـي وهو خلاف الظاهر.

وقرأ ابن عامر ـ إضطره ـ بكسر الهمزة، ويزيد بن أبـي حبيب ـ اضطره ـ بضم الطاء وأبـيّ ـ نضطره ـ بالنون، وابن عباس ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن ـ أطره ـ بإدغام الضاد في الطاء خبراً ـ قال الزمخشري ـ وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف ادغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في { نغفر لكم } [البقرة: 58] والضاد في الشين في ـ { { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } ـ [النور: 62] والشين في السين في { ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42] والكسائي الفاء في الباء في { نَخْسِفْ بِهِمُ } [سبأ: 9] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا ـ مضطجع ومطجع ـ إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاءاً، ثم وقع الإدغام.

{ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي ـ وبئس المصير النار ـ إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدراً على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.