التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٤
-البقرة

روح المعاني

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ } المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبـي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم { وَيَشْتَرُونَ بِهِ } أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير ـ للكتاب ـ أو لما أنزل أو للكتمان { ثَمَناً قَلِيلاً } أي عوضاً حقيراً.

{ أُولَٰـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } إما في الحال ـ كما هو أصل المضارع ـ لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار وهو ـ الرشا ـ لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من ـ أكلهم النار ـ من حيث إنه يترتب على ـ أكل ـ كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل: إنها مجاز عن ـ الرشا ـ إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي: ما يأكلون شيئاً حاصلاً في بطونهم إلا النار إذ الحصول في ـ البطن ـ ليس مقارناً للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق بيأكلون والمراد في طريق بطونهم كما اختاره أبو البقاء، والتقييد ـ بالبطون ـ لإفادة ـ الملء ـ لا للتأكيد ـ كما قيل به ـ والطرفية بلفظة (في) وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية ـ البطن ـ في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله:

/ ـ كلوا ـ في بعض ـ بطنكم ـ تعفوا فإن زمانكم زمن خميص

{ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي كلام رحمة ـ كما قال الحسن ـ فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل: لا يكلمهم أصلاً لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة الملائكة. { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثني عليهم. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك ـ الثمن القليل ـ وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولاً في الخبر بقوله تعالى: { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ } ثم قابل ـ كتمانهم الحق ـ وعدم التكلم به بقوله تعالى: { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ } تعالى، وابتنى على ـ كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمناً قليلاً ـ أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه: { وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وبدأ أولاً: بما يقابل فرداً فرداً، وثانياً: بما يقابل المجموع.