التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٢٣
-البقرة

روح المعاني

{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21] و على { فَلاَ تَجْعَلُواْ } [البقرة: 22] وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفي الشرك - بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه ـ أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه - وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعاً ولو أريد ذلك لكفى - اعبدوا ولا تشركوا - من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود لما أن سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله عليه وسلم لا يشبه الوحي { وَإِنَّا لَفِى شَكّ مِنْهُ } وقيل: هو على نحو الخطاب في { ٱعْبُدُواْ } [البقرة: 21].

وكلمة { إنْ } إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب - من لا - قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتاباً والبعض غير مرتاب جعل الجميع كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه - وجعلها بمعنى إذا كما ادعاه بعض المفسرين - خلاف مذهب المحققين - وإيراد كلمة كان لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقبلها - إن - إلى معنى الاستقبال - كما ذهب إليه المبرد وموافقوه - والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية، وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلاً ولا يميل إليه الفؤاد.

وتنكير الريب للإشعار بأن حقه إن كان أن يكون ضعيفاً قليلاً لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفاً بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، و (من) ابتدائية صفة { رَيْبَ } ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلاً للريب وحاشاه، و (ما) موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في كونه وحياً من الله تعالى شأنه، والتضعيف في { نَزَّلْنَا } للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب - (أنزلنا) - وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: { لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً } [الفرقان: 32] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير ممن يعقد عند/ ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو - فتحت وقطعت -، و - (نزلنا) - لم يكن معتدياً قبل، وأيضاً التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعدياً فلا، والفعل هنا كان لازماً فكون التعدي مستفاداً من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضاً لو كان نزل مفيداً للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: { لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وَاحِدةً } [الفرقان: 32] إلى تأويل، لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل { { وَلولاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ } [الأنعام: 37] و { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً } [الإسراء: 95] وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلاً قليلاً كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلاً قليلاً قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه - رتبه - أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازاً أو اشتراكاً فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي - (نزل) - بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله عليه وسلم - بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله عليه وسلم:

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

وقرىء - (عبادنا) - فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن ارتياب فيه، ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقاً له ومهيمناً عليه، وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء } [الأنعام: 91] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه ـ مما نزل على عبده ـ لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيماً للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى بـ - (نا) - المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام.

والفاء من { فَأتُواْ } جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: { فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } [البقرة: 258] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والاعيان والاعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي كـ { لاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ } [التوبة: 54] وأصل { فَأتُواْ } فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذاً حذف الفاء فقيل (ت وتوا) والتنوين في (سورة) للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.

و { مّن مّثْلِهِ } إما أن يكون ظرفاً مستقراً صفة لسورة والضمير راجع إما لـِ - (ما) - التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وأما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضاً كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة/ لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكاً لطريق الكناية مع ما في لفظ (من) التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمناً حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون (من) للإبتداء مثلها في { { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } [النمل: 30] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة { فَاتُواْ }. والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن (من) لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقراً أبداً لا تتعلق بالأمر لغواً ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعاً عليه حقيقة كما في ـ أخذت من الدراهم ـ ولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود (من) ولأنه يلزم أن يكون { بِسُورَةٍ } ضائعاً فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفاً - للإتيان بالكلام منه - معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضاً المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئاً من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفاداً من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام.

واعترض بأن معنى (من) لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } [التوبه: 38] و { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَـٰئِكَةً } [الزخرف: 60] وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا لو علق { مّن مّثْلِهِ } بـ { فأتُواْ } وحمل (من) على البدل أو المجاوزة و ـ مثل ـ على المقحم ورجع الضمير إلى { مَا أَنَزَلْنَا } على معنى: فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه، الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة ـ لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو ـ قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار ـ وأيضاً فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا الشهاب - أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان (من مثله) صفة (سورة) سواء كان الضمير - لما - أو - للعبد - لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضاً، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضاً - ائتوا - من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه - ائتوا - من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن (من) ليست بيانية لأنها لا تكون لغواً ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعلياً بل مادياً، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتضىٍ أولاً ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، و (ما) على تقديري اللغو والاستقرار/ أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي ـ ولا أزكى نفسي ـ أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجار بردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في «الأجوبة العراقية» ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و { مِنْ } بيانية، أما أولاً: فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: { { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } [يونس: 38] لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به، وأما ثانياً: فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعاً ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثاً: فلأن أمر الجم الغفير ـ لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم ـ أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحداً يأتي ما أتى به رجل آخر، وأما رابعاً: فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأنه الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر ـ ما نزلنا ـ أن يكون الكلام مسوقاً له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أميّ كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهراً كما سنبينه بمنه تعالى.

قوله تعالى: { وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }. الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه { أَغَيْرَ ٱللَّهِ تَدْعُونَ } [الأنعام: 40] والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفاً وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة والناصر والإمام أيضاً. و { دُون } ظرف مكان لا ينصرف ويستعمل - (بمن) - كثيراً - وبالباء - قليلاً، وخصه في «البحر» بمن (دونها) ورفعه في قوله:

ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت دونها

نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو - كعند - إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافاً للبيضاوي - كما قيل - لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف - كدون زيد في القامة - ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيهاً بالمراتب الحسية - كدون عمرو شرفاً - ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب من غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله:

إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع (بالدون) من كان دونا

وما في «القاموس» من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي/ وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال: دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلاً وعليه حمل قول أبـي تمام:

الود للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان (دون) الأقرب

لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا: يكون بمعنى وراء كأمام وبمعنى فوق ونقيضاً له. و (من) لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثله فإنه لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت والشهيد على الأول بمعنى الحاضر، وعلى الثاني بمعنى الناصر، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة، قيل: ولا يجوز أن يكون بمعنى الأمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكماً، ولو قيل: ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أيّ تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من بـ { شُهَدَاءكُمُ } وهي للابتداء أيضاً، و { دُونِ } بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة - الشهداء - أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون { دُونِ } بمعنى أمام حقيقة أو مستعاراً من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول - لشهداء - ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، و (من) للتبعيض كما قالوا في: { مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الرعد: 11] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في «شرح التسهيل»: أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل: هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية ـ ولم تجعل { دُونِ } بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون { مِنْ } للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى: ادعوا - شهداءكم - من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل: تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضاً لا يشهدون لكم حذاراً من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه - والصدق - مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، وجواب { إن } محذوف/ لدلالة الأول عليه وليس هو جواباً لهما، وكذا متعلق الصدق أي: إن كنتم صادقين بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته - فأتوا، وادعوا - فقد بلغ السيل الزبـى، وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد: إن كنتم صادقين في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعاً لأن الاحتمال شك أيضاً، ومن التكلف بمكان قول الشهاب: إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا.

هذا ووجه ملائمة الآية ـ لما قلناه في الآية السابقة ـ أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكماً بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في - المثل - أو بالشهادة على أن المأتي به - مثل - ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحداً منهم فإنهم باعثون له على الإتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم - باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة - ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضاً، وقد أورد هٰهنا أمور طويلة لا طائل تحتها.