التفاسير

< >
عرض

مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٤٥
-البقرة

روح المعاني

{ مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ } { مَنْ } استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، و { ذَا } خبره و { ٱلَّذِى } صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون { مَن ذَا } بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاماً من ـ من ـ وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلباً للثواب الآجل، والمراد هٱهنا إمّا الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال، وإمّا مطلق العمل الصالح، ويدخل فيه ذلك دخولاً أولياً، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها { قَرْضًا } إمّا مصدر بمعنى ـ إقراضاً ـ فيكون نصباً على المصدرية، وإما بمعنى المفعول فيكون نصباً على المفعولية، وقوله سبحانه: { حَسَنًا } صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأول الخلوص مثلاً وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبـي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ القرض الحسن ـ المجاهدة والانفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام { فَيُضَـٰعفَهُ } أي ـ القرض ـ { لَهُ } وجعله ـ مضاعفاً ـ مجاز لأنه سبب ـ المضاعفة ـ وجوز تقدير مضاف أي ـ فيضاعف ـ جزاءه، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة.

وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون ـ معطوفاً ـ على مصدر ـ يقرض ـ في المعنى أي ـ من ذا الذي ـ يكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى، وثانيهما: أن يكون جواباً لاستفهام معنى أيضاً لأن المستفهم/ عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضاً كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين ـ على ما قيل ـ الأوّل: أن (قرضاً) هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل، والثاني: إن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولاً ليقرض، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل، وقرأ ابن كثير (يضعفه) بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر (يضعفه) بالنصب.

{ أَضْعَافًا } جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالاً من الهاء في { يُضَـٰعِفْهُ } وأن يكون مفعولاً ثانياً على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير، وجوّز أن يعتبر واقعاً موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به أيضاً إذ ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها { كَثِيرَةً } لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن أبـي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبـي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة: أوَ ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }؟ فالكثيرة عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي ألف والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة" .

{ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة، والأصم، والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره على الأول الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء، وقرىء { يبصط }. { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على حسب ما قدمتم.

ومن باب الإشارة: إن الصلوات خمس، صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوى وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات { وَقُومُواْ لِلَّهِ } بالتوجه إليه { قَـٰنِتِينَ } [البقرة: 238] أي مطيعين له ظاهراً وباطناً بدفع الخواطر { فَإِنْ خِفْتُمْ } صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء/ المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك { فَإِذَا أَمِنتُمْ } بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } [البقرة: 239] أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ، وأمّا قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولا تفصيل وقد قيل للمجنون: أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟! أنا ليلى، وقال بعضهم:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ } أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى { وَهُمْ } قوم { أُلُوفٌ } كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } أي أمرهم بالموت الاختياري أو أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه { { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [البقرة: 243] بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني ـ والبقاء بعد الفناء ـ { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى } [البقرة: 243] سائر { { ٱلنَّاسِ } [البقرة: 243] بتهيئة أسباب إرشادهم { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [البقرة: 243] لمزيد غفلتهم عما يراد بهم { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 244] النفس والشيطان { { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } [البقرة: 244] هواجس نفوس المقاتلين في سبيله { عَلِيمٌ } [البقرة: 244] بما في قلوبهم { مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ } ويبذل نفسه له بذلاً خالصاً عن الشركة { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } بظهور نعوت جماله وجلاله فيه ـ { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ } أرواح الموحدين ـ بقبضته الجبروتية في نور الأزلية، { وَيَبْسُطُ } [البقرة: 245] أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل: القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول: للمشتاقين والثاني: للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف والرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبـي وكان الأول: من آثار الجلال والثاني: من آثار الجمال.