التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
-البقرة

روح المعاني

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا: إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلاً أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره: نزلت في المنافقين قالوا ـ لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد والصيب ـ الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل: إنها متصلة بقوله تعالى: { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [البقرة: 22] أي: لا يستحي أن يضرب مثلاً لهذه الأنداد، وقيل: هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثواباً وعقاباً، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه:

وما انفكت الأمثال في الناس سائرة

((والحياء كما قال الراغب انقباض النفس عن القبائح))، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياء فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في «القاموس» خجل استحيا تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة ـ وللناس في ذلك مذهبان ـ فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناءً على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، وبعض ـ وأنا والحمد لله منهم ـ لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة.

وقرأ الجمهور (يستحيي) بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية وقليلون بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع، أو العين فالوزن يستفل؟ قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعدياً بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما.

والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل: يبين، وقيل: يضع من { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ } [البقرة: 61] و (ما) اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضاً ـ كأعطه شيئاً ما ـ والتعظيم ـ كلأمر ما جدع قصير أنفسه ـ والتنويع ـ كاضربه ضرباً ما ـ وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة ـ لما ـ أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من { مَثَلاً } أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول/ و { مَثَلاً } حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي: ما من بعوضة فما فوقها كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى، أو مفعول ثان؛ أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مثلاً ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده.

وقرأ ابن أبـي عبلة وجماعة: (بعوضة) بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبراً؛ فقيل: مبتدأ محذوف أي هي أو هو بعوضة، والجملة صلة (ما) على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل: (ما) بناءً على أنها استفهامية مبتدأ، واختار في «البحر» أن تكون (ما) صلة أو صفة وهي (بعوضة) جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل: { بَعُوضَةً } مبتدأ، و { مَا } نافية والخبر محذوف أي متروكة لدلالة { لاَ يَسْتَحْىِ } عليه.

والبعوضة واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل خموش فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع.

{ فَمَا فَوْقَهَا } الفاء عاطفة ترتيبية، و { مَا } عطف على { بَعُوضَةً } أو { مَا } إن جعل اسماً والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترق من الصغير للكبير وبه قال ابن عباس أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا: إن جعلت { مَا } موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل: أراد: ما فوقها وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] فافهم.

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ } تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ } الخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها، وكأنه قيل كما قيل فيضربه { مُّبِيناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ } الخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالباً، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحاً، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديراً، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى من المحققين أغلبياً، وفسر سيبويه ـ أما زيد فذاهب ـ بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك، ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه. ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالباً، وقامت ـ أما ذلك المقام ـ لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظاً، وقد يقدم على الفاء ـ كما في الرضى ـ من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذمّ ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في { أَنَّهُ } للمثل وهو أقرب،/ أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما مر، وقيل: للقرآن.

والحق خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابـي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال ـ هذا هو الحق ـ أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، و { مّن رَّبّهِمُ } إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، و { مِنْ } لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه: { نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } [البقرة: 23] وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران: 28] وقيل: في ذلك ـ مع الإضافة إلى الضمير ـ تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادّة مسدّ مفعولي ـ يعلمون ـ عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي { فَيَعْلَمُونَ } حقيته ثابتة.

{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } لم يقل سبحانه - وأما الذين كفروا فلا يعلمون - ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة.

ومن قال للمسك أين الشذا يكذبه ريحه الطيب

قيل: ولم يقل سبحانه هناك ـ وأما الذين آمنوا فيقولون ـ الخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كإخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن ـ يقولون ـ لا يدل صريحاً على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند { فَيَقُولُونَ } الخ أشمل وأجمع، و { مَاذَا } لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول: أن تكون (ما) استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و (ذا) بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناءً على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام وغيره يجعل النكرة خبراً عن الموصول. الثاني: أن تكون (ماذا) كلها استفهاماً مفعولاً لأراد وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء { { ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [النور: 40]، الثالث: أن يجعل (ما) استفهامية، و (ذا) صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع: أن يجعلا معاً موصولاً كقوله:

دعى (ماذا) علمت سأتقيه

الخامس: أن يجعلا نكرة موصوفة، وقد جوز في المثال، السادس: أن تكون (ما) استفهامية، و (ذا) اسم إشارة خبر له.

((والإرادة كما قاله الراغب: منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسماً لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي)) الخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين أهل الحق وغيرهم في تفسيرها مذاهب، فالكلبـي والنجار وغيرهما على/ أن إرادته سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالماً بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذاً ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة (هذا) استحقار للمشار إليه مثلها في: { أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [الفرقان: 41] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، و { مَثَلاً } نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى - والعهدة عليه - أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجىء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالاً من اسم الله تعالى أو من (هذا) أي ممثلاً أو ممثلاً به أو بضربه.

{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين - بأما - إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقاً من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطاً في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحاً أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب - لماذا - ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيراً، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل: ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافياً عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى: { { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سبباً له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل:

ولم أر أمثال الرجال تفاوتت لدى المجد حتى عد ألف بواحد

لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } الخ في موضع الصفة - لمثل - فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل - يضل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً - وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } من كلام/ الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في «الكشاف» لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في { بِهِ } للمثل أو لضربه في الموضعين، وقيل: في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي: { يُضِلَّ } هنا وفيما يأتي و { يَهْدِى } بالبناء للمفعول وابن أبـي عبلة في الثلاثة بالبناء للفاعل، ورفعا الفاسقين ـ خفضهم الله تعالى ـ.

{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ } تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناءً على قول من جوّزه، وقيل: حال، ومنع السيالكوتي عطفه على ما قبله قائلاً لأنه لا يصح كونه جواباً وبياناً، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائياً بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، و (الفاسقين) جمع فاسق من الفسق، وهو شرعاً خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادراً بقرينة، وهو من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابـي: ولم يسمع الفسق وصفاً للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه:

يذهبن في نجد وغوراً غائرا (فواسقا) عن قصدها جوائرا

على أنه يمكن أن يقال: لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الأجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب { ٱلْفَـٰسِقِينَ } على أنه مفعول { يُضِلَّ } أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحداً، ولا تفريغ كما في قوله:

نجا سالم والنفس منه بشدة ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت.