التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٩٣
-البقرة

روح المعاني

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ } أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور { وَٱسْمَعُواْ } ـ أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم، وكثيراً ما يراد من السماع القبول ومن ذلك "سمع الله لمن حمده" وقوله:

دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله (يسمع) ما أقول

{ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي سمعنا قولك: (خذوا واسمعوا) وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة، وليس هذا جواباً لـ (اسمعوا) باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى (خذوا) بلا جواب، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالاً وجواباً، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض/ وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا: نمتثل أحدهما دون الآخر، ومرجعه إلى القول بالموجب، ونظيره { يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } [التوبة: 61] وقيل: المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا، أو سمعنا أحكاماً قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا، وقيل: (سمعنا) جواب (اسمعوا) و (عصينا) جواب (خذوا) وقال أبو منصور: إن قولهم (عصينا) ليس على أثر قولهم: (سمعنا) بل بعد زمان كما في قوله تعالى: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } [البقرة: 64] فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعدما سمعت كما لا يخفى.

{ وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } عطف على { قَالُواْ } أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل (قالوا) و ـ الإشراب ـ مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، ومنه بياض مشرب بحمرة، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل، وجوز أن يكون العجل مجازاً عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف، وذكر ـ القلوب ـ لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات؛ والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا:

إذا ما القلب (أشرب) حب شيء فلا تأمل له عنه انصرافاً

وقيل: ـ أشربوا ـ من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلاً كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به؛ وقيل: من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن، ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، وقال الشاعر:

تغلغل حيث لم يبلغ (شراب) ولا حزن ولم يبلغ سرور

وقيل: من الشرب حقيقة، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، ولا يخفى أن قوله تعالى: { فِى قُلُوبِهِمْ } يبعد هذا القول جداً على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضاً، وبناء ـ أشربوا ـ للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة: هو على حد قول القائل ـ أنسيت كذا ـ ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري.

{ بِكُفْرِهِمْ } أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلهاً أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم، وثعبان العصا كان لا يبقى زماناً ممتداً ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلاً صنعوه على هيئة البهائم إلهاً وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل، وقيل: الباء بمعنى مع أي مصحوباً بكفرهم فيكون ذلك كفراً على كفر.

{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ } أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى: { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ } [هود: 87] والمخصوص بالذم محذوف ـ أي قتل الأنبياء ـ وكذا وكذا، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصاً بقولهم: عصينا أمرك، وأراه على القرب بعيداً.

{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى: / { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } [البقرة: 91] إلى آخر الآيات المذكورة في ردّ دعواهم الإيمان، أو الجملة الإنشائية السابقة ـ إما بتأويل أو بلا تأويل ـ وتقرير ذلك: إن كنتم مؤمنين ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلاً، أو: إن كنتم مؤمنين بها فبئسما أمركم به إيمانكم بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل، لكن الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين، والملازمة بين الشرط والجزاء على الأول: بالنظر إلى نفس الأمر، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض وعلى الثاني: تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر، ـ واستظهر بعضهم في هذا ـ ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي: إن كنتم مؤمنين تعرفون أنه بئس المأمور به، وقيل: (إن) نافية، وقيل: للتشكيك ـ وإليه يشير كلام «الكشاف» ـ وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام ـ لا للتشكيك ـ على أنه لم يعهد استعمال (إن) لتشكيك السامع ـ كما نص عليه بعض المحققين ـ وقرأ الحسن ومسلم بن جندب ـ بهو إيمانكم ـ بضم الهاء ووصلها بواو ـ.