التفاسير

< >
عرض

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٩٦
-البقرة

روح المعاني

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ } الخطاب للنبـي صلى الله عليه وسلم، و ـ تجد ـ من وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين، والضمير مفعول أول، و (أحرص) مفعول ثان، واحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد، و (أحرص) حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، وقيل: على جميعهم، وقيل: على علماء بني إسرائيل و ـ أل ـ في الناس للجنس، وهو الظاهر، وقيل: للعهد، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم، وتنكير (حياة) لأنه أريد بها فرد نوعي، وهي الحياة المتطاولة، فالتنوين للتعظيم، ويجوز أن يكون للتحقير فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية و { وِإنٍ ٱلدَّارَ ٱلأَخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ } [العنكبوت: 64] ويجوز أن يكون التنكير للإبهام، بل قيل: إن الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك، والجملة إما حال من فاعل { قُلْ } [البقرة: 94] ـ وعليه الزجاج ـ وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت، وقرأ أبـيّ (على الحياة) بالألف واللام.

{ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة، وقيل: مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين الخ بناءً على ما ذهب إليه ابن السراج وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات (من) الابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب مفعوله، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام، والمراد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور ـ بمن ـ مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجىء ـ بمن ـ في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضاف إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءاً من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما/ متقابلين، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي ـ وأحرص من الذين ـ وهو قول مقاتل؛ ووجه الآية على مذهب سيبويه، وعلى التقديرين ذكر ـ المشركين ـ تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في ـ اللام ـ لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثواباً ويخافون عقاباً، أحرص ممن لا يرجو ذلك، ولا يؤمن ببعث ولا يعرف إلا الحياة العاجلة، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب، ومن توقع شراً كان أنفر الناس عنه، وأحرصهم على أسباب التباعد منه. ومن الناس من جوّز كون (من الذين) صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في { لتجدنهم } والكلام على التقديم والتأخير، أي: لتجدنهم وطائفة من ـ الذين أشركوا أحرص الناس ـ ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق، لأنه ـ وإن كان معنى صحيحاً في نفسه ـ إلا أن التركيب ينبو عنه، والفصاحة تأباه، ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف ـ هو مبتدأ ـ والمذكور صفته، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته.

{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضاً من سابقه المجرور بمن أو ـ في ـ جائز في السعة، وفي غيره مختص بالضرورة نحو:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

وحينئذٍ يراد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا عزير ابن الله ووضع المظهر موضع المضمر نعياً عليهم بالشرك، وجوّز بعضهم أن يراد بذلك الجنس، ويراد بمن يود أحدهم اليهود، والمراد كل واحد منهم ـ وهو بعيد ـ وجملة { يَوَدُّ } الخ، على الوجهين الأولين مستأنفة، كأنه قيل: ما شدة حرصهم، وقيل: حال من (الذين) أو من ضمير (أشركوا) أو من الضمير المنصوب في { لتجدنهم }.

{ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } جواب { لَوْ } محذوف ـ أي لسر بذلك ـ وكذا مفعول { يَوَدُّ } أي طول الحياة، وحذف لدلالة { لَوْ يُعَمَّرُ } عليه كما حذف الجواب لدلالة { يَوَدُّ } عليه، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان، وذهب بعض الكوفيين ـ في مثل ذلك ـ إلى أن { لَوْ } مصدرية بمعنى ـ أن ـ فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول { يَوَدُّ } كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة، وقيل: { لَوْ } بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية بيود في موضع المفعول، وهو ـ وإن لم يكن قولاً ولا في معناه ـ لكنه فعل قلبـي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها، وكان أصله ـ لو أعمر ـ إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة { يَوَدُّ } فإنه غائب، كما يقال: حلف ليفعلن ـ مقام لأفعلن ـ وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول، فإنه لا يجوز قال: ليفعلن، وإذا قلنا: إن (لو) التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية، وابن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: إن (لو) في أمثال ذلك مصدرية لا غير، لكنها أشبهت ـ ليت ـ في الإشعار بالتمني، وليست حرفاً موضوعاً له ـ كليت ـ ونحو لو تأتيني فتحدثني ـ بالنصب ـ أصله وددت لو تأتيني الخ، فحذف فعل التمني لدلالة (لو) عليه، وقيل: هي (لو) الشرطية أشربت معنى التمني، ومعنى { أَلْفَ سَنَةٍ } الكثرة ليشمل من (يود) أن لا يموت أبداً، ويحتمل أن يراد ألف سنة حقيقة ـ والألف ـ العدد المعلوم من الألفة، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناءً على متعارف الناس، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته ـ لا الأعداد ـ وأصل (سنة) سنوة، لقولهم: سنوات، وقيل: سنهة ـ كجبهة ـ لقولهم: سانهته، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون، وسمع أيضاً في الجمع سنهات.

{ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } { مَا } حجازية أو تميمية، وهو ضمير عائد إلى { أَحَدِهِمْ } اسمها ـ أو مبتدأ ـ و { بِمُزَحْزِحِهِ } خبرها أو خبره ـ والباء ـ زائدة، و { أَن يُعَمَّرَ } / فاعل (مزحزحه) والمعنى ـ ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره ـ وفيه إشارة إلى ثبوت من ـ يزحزحه التعمير ـ وهو (من آمن وعمل صالحاً) ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة، ولا تدخل ـ الباء في خبر { مَا } وليس إلا إذا كان مفرداً عند غير الفراء، وأجاز ذلك أبو علي، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو ما هو بقائم زيد؛ نعم جوّزوا أن يكون لما دل عليه { يُعَمَّرُ } و { أَن يُعَمَّرَ } بدل منه، أي: ما تعميره بمزحزحه من العذاب واعترض بأن فيه ضعفاً للفصل بين البدل والمبدل منه، وللإبدال من غير حاجة إليه، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ ـ التعمير ـ غير مذكور، بل ضميره حسن الإبدال؛ ولو كان التعمير مذكوراً بلفظه لكان الثاني تأكيداً ـ لا بدلاً ـ ولكونه في الحقيقة تكريراً يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناءً بشأن الحكم بناءً على شدة حرصه على التعمير ـ ووداده إياه ـ جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر، كما في التأكيد في قوله تعالى: { وَهُمْ بِٱلأَخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } [هود: 19] وقيل: هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع، ويستقر في ذهنه كونه محكوماً عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز ـ كما يفهمه كلام الرضي في بحث أفعال المدح والذم ـ واحتمال أن يكون (هو) ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد ـ والزحزحة ـ التبعيد، وهو مضاعف من زح يزح زحاً، ككبكب من كب ـ وفيه مبالغة ـ لكنها متوجهة إلى النفي على حد ما قيل: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46] فيؤول ـ إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ـ التعمير، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا بمقابلة (أيام معدودة) عذاب الأبد.

{ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي عالم بخفيات أعمالهم ـ فهو مجازيهم لا محالة ـ وحمل ـ البصر ـ على ـ العلم ـ هنا وإن كان بمعنى الرؤية صفة لله تعالى أيضاً لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى ـ على ما ذهب إليه بعض المحققين ـ وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر، و(ما) إما موصولة أو مصدرية، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب { تَعْمَلُونَ } ـ بالتاء ـ على سبيل الالتفات.