{ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ } ولذلك كسرت همزة إن في قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير / وأبو عمرو بفتحها على تقدير حرف الجر أي بأني، والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء وغيره متعلق بـِ
{ { نُودِىَ } [طه: 11] والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي:ناديت باسم ربيعة بن مكرم إن المنوه باسمه الموثوق
ولا يخفى على ذي ذوق سليم حال التركيب على هذا التخريج وأنه انما يحلو لو لم يكن المنادي فاصلاً. وقيل: على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى. واختير أن الكلام على تقدير العلم أي أعلم أني الخ، وتكرير ضمير المتكلم لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة، واستظهر أن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقاً منه تعالى فيه، وقيل: بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق، وقيل: بما حصل له من ذلك بعد النداء، فقد روي أنه عليه السلام لما نودي يا موسىٰ قال عليه السلام: من المتكلم؟ فقال: أنا ربك فوسوس إليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه السلام: أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء، والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الأعضاء التي من شأنها السماع والتي لم يكن من شأنها، وقيل: الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الأعضاء، وهو المراد بالسماع من جميع الجهات، وأياً ما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم أر له سنداً يعول عليه، وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه السلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد. والمعتزلة أوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخارق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوماً بالضرورة لخرج موسى عليه السلام عن كونه مكلفاً لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالاتفاق أنه عليه السلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف. وقال بعضهم: لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخارق ما هو، وأخرج أحمد وغيره عن وهب أنه عليه السلام لما اشتد عليه الهول نودي من الشجرة فقيل: يا موسى فأجاب سريعاً وما يدري من دعاه وما كان سرعة إجابته إلا استئناساً بالإنس فقال: لبيك مراراً إني لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت: قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى عليه السلام علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فأيقن به فقال: كذلك أنت يا إلٰهي فكلامك أسمع أم رسولك؟ قال: بل أنا الذي أكلمك، ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وأنه لا يحصل الإيقان بمجرد سماع ما لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة، ثم إن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه السلام سمع الكلام اللفظي منه تعالى بلا واسطة ولذا اختص عليه السلام باسم الكليم وهو مذهب جماعة من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم. وأجابوا عن استلزام الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضي بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهي اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعة واحدة كما يشاهد في الحروف المرسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمهم أن يؤولوا قوله تعالى: { فَلَمَّا أَتَـٰهَا نُودِىَ } [طه: 11] الخ بأن يقولوا: المراد فلما أتاها أسمع أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك وإلا فمجيء النار حادث والمرتب على الحادث حادث، / ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام أن هذا الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة، وأهل البدعة أجمعوا على أن الكلام اللفظي حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز، وزعم أن الذي سمعه موسى عليه السلام خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها. وقال الأشعري: إن الله تعالى أسمع موسى عليه السلام كلامه النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك، وقد حققه بعضهم بأنه عليه السلام تلقى ذلك الكلام تلقياً روحانياً كما تتلقى الملائكة عليهم السلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم أفاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور ألفاظ مخصوصة فصار لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم، ووجه وقوف الشيطان المار في الخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك، ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه السلام على هيئة المصغي المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى، وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتأمل، واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم. { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } أزلهما من رجليك والنعل معروفة وهي مؤنثة يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل بفتح العين أنشد الفراء:
له نعل لا يطبـي الكلب ريحها وإن وضعت بين المجالس شمت
وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ كما روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والضحاك والكلبـي، وروي كونهما من جلد حمار في حديث غريب فقد أخرج الترمذي بسنده عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف أي قلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار" ، وعن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج أنهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه السلام بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس. وقال الأصم: لأن الحفوة أدخل في التواضع وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بأفضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار، ولعل الأصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه. وقال أبو مسلم: لأنه تعالى أمنه من الخوف وأوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه السلام إنما لبسهما اتقاء من الأنجاس وخوفاً من الحشرات، وقيل: المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال من الدنيا والآخرة. ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به، وغلب على ما ذكر تحقيراً، ولذا أطلق على الزوجة نعل كما في «كتب اللغة»، ولا يخفى عليك أنه بعيد وإن وجه بما ذكر وهو أليق بباب الإشارة، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه السلام من موجبات الأمر ودواعيه. وقوله تعالى: { إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ } تعليل لموجب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها. روي أنه عليه السلام / حين أمر خلعهما وألقاهما وراء الوادي { طُوى } بضم الطاء غير منون. وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منوناً وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبـي إسحاق وأبو السمال وابن محيصن بكسرها منوناً. وقرأ أبو زيد عن أبـي عمرو بكسرها غير منون؛ وهو علم لذلك الوادي فيكون بدلاً أو عطف بيان، ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: { طوى } المضموم الطاء الغير المنون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم، وقيل: للعلمية والعجمة؛ وقال قطرب: يقال طوى من الليل أي ساعة أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودي فيكون معمولاً للمقدس، وفي «العجائب» للكرماني قيل: هو معرب معناه ليلاً وكأنه أراد قول قطرب، وقيل: هو رجل بالعبرانية وكأنه على هذا منادىٰ، وقال الحسن: طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظاً ومعنى، وهو عنده معمول للمقدس أيضاً أي قدس مرة بعد أخرى، وجوز أن يكون معمولاً لنودي أي نودي نداءين، وقال ابن السيد: إنه ما يطوى من جلد الحية ويقال: فعل الشيء طوى أي مرتين فيكون موضوعاً موضع المصدر، وأنشد الطبرسي لعدي بن زيد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه على طوى من غيك المتردد
وذكر الراغب أنه إذا كان بمعنى مرتين يفتح أوله ويكسر، ولا يخفى عليك أن الأظهر كونه اسماً للوادي في جميع القراءات.