التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٣١
-طه

روح المعاني

{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل { إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ } من زخارف الدنيا كالبنين والأموال والمنازل والملابس والمطاعم { أَزْوٰجاً مّنْهُمْ } أي أصنافاً من الكفرة وهو مفعول { مَتَّعْنَا } قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به و{ من } بيانية، وجوز أن يكون حالاً من ضمير { به } و{ من } تبعيضية مفعول { مَتَّعْنَا } أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لمفعوله المحذوف أي لا تمدن عينيك إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم أو بعضاً كائناً منهم. والمراد على ما قيل استمر على ترك ذلك، وقيل: الخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان أبعد شيء عن إطالة النظر إلى زينة الدينا وزخارفها وأعلق بما عند الله عز وجل من كل أحد وهو عليه الصلاة والسلام القائل: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله تعالى" وكان صلى الله عليه وسلم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها، والكلام على حذف مضاف أو فيه تجوز في النسبة، وفي العدول عن لا تنظر إلى ما متعنا به الخ إلى ما في النظم الكريم إشارة إلى أن النظر الغير الممدود معفو وكان المنهي عنه في الحقيقة هو الإعجاب بذلك والرغبة فيه والميل إليه لكن بعض المتقين بالغوا في غض البصر عن ذلك حتى أنهم لم ينظروا إلى أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغيرهما وذلك لمغزى بعيد وهو أنهم اتخذوها لعيون النظارة والفخر بها فيكون النظر إليها محصلاً لغرضهم وكالمغرى لهم على اتخاذها.

{ زَهْرَةَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } أي زينتها وبهجتها وهو منصوب بمحذوف يدل عليه { مَتَّعْنَا } أي جعلنا لهم زهرة أو بمتعنا على أنه مفعول ثان له لتضمينه معنى أعطينا أو على أنه بدل من محل { بِهِ } وضعفه ابن الحاجب في «أماليه» لأن إبدال منصوب من محل جار ومجرور ضعيف كمررت بزيد أخاك ولأن الإبدال من العائد مختلف فيه. ومثل ذلك ما قيل إنه بدل من ما الموصولة لما فيه من الفصل بالبدل بين الصلة ومعمولها أو على أنه بدل من ـ أزواجاً ـ بتقدير مضاف أي ذوي أو أهل زهرة، وقيل: بدون تقدير على كون ـ أزواجاً ـ حالاً بمعنى أصناف التمتعات أو على جعلهم نفس الزهرة مبالغة. وضعف هذا بأن مثله يجري في النعت لا في البدل لمشابهته لبدل الغلط حينئذ أو على / أنه تمييز لما أو لضمير «به»، وحكي عن الفراء أو صفة ـ أزواجاً ـ ورد ذلك لتعريف التمييز وتعريف وصف النكرة، وقيل: على أنه حال من ضمير { به } أو من { ما } وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وجر الحياة على البدل من { ما } واختاره مكي ولا يخفى ما فيه، وقيل: نصب على الذم أي اذم زهرة الخ واعترض بأن المقام يأباه لأن المراد أن النفوس مجبولة على النظر إليها والرغبة فيها ولا يلائمه تحقيرها ورد بأن في إضافة الزهرة إلى الحياة الدنيا كل ذم وما ذكر من الرغبة من شهوة النفوس الغبية التي حرمت نور التوفيق.

وقرأ الحسن وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري ـ زهرة ـ بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة، وفي «المحتسب» لابن جني مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتحة أنه لا يحرك إلا على أنه لغة كنهر ونهر وشعر وشعر ومذهب الكوفيين أنه يطرد تحريك الثاني لكونه حرفاً حلقياً وإن لم يسمع ما لم يمنع منه مانع كما في لفظ ـ نحو ـ لأنه لو حرك قلب الواو ألفاً، وجوز الزمخشري كون زهرة بالتحريك جمع زاهر ككافر وكفرة وهو وصف لأزواجاً أي أزواجاً من الكفرة زاهرين بالحياة الدنيا لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، وجوز على هذا كونه حالاً لأن إضافته لفظية. وأنت تعلم أن المتبادر من هذه الصفة قصد الثبوت لا الحدوث فلا تكون إضافتها لفظية على أن المعنى على تقدير الحالية ليس بذاك.

{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } متعلق بمتعنا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وفيه تنفير عن ذلك ببيان سوء عاقبته مآلاً إثر بهجته حالاً، وقرأ الأصمعي عن عاصم (لنفتنهم) بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه على ما قال أبو حيان { وَرِزْقُ رَبّكَ } أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى، وادعى صاحب «الكشف» أنه أنسب بهذا المقام أو ما ادخر لك فيها من فتح البلاد والغنائم، وقيل: القناعة { خَيْرٌ } مما متع به هؤلاء لأنه مع كونه في نفسه من أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما متعوا به { وَأَبْقَىٰ } فإنه نفسه أو أثره لا يكاد ينقطع كالذي متعوا به.