وجعل قوله تعالى: { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } جواب الطلب وغرضاً من الدعاء فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤاله عليه السلام. واعترض على ذلك بأن قوله تعالى:
{ { هُوَ أَفْصَحُ مِنّى } [القصص: 34] قال عليه السلام قبل استدعاء الحل على أنه شاهد على عدم بقاء اللكنة لأن فيه دلالة على أن موسى عليه السلام كان فصيحاً غايته أن فصاحة أخيه أكثر وبقية اللكنة تنافي الفصاحة اللغوية المرادة هنا بدلالة قوله { { لساناً } [القصص: 34]. ويشهد لهذه المنافاة ما قاله ابن هلال في كتاب «الصناعتين»: الفصاحة تمام آلة البيان ولذا يقال: لله تعالى فصيح وإن قيل لكلامه سبحانه فصيح ولذلك لا يسمى الالثغ والتمتام فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف وبأن قوله تعالى: { { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52] معناه لا يأتي ببيان وحجة، وقد قال ذلك اللعين تمويهاً ليصرف الوجوه عنه عليه السلام، ولو كان المراد نفي البيان وإفهام الكلام لاعتقال اللسان لدل على عدم زوال العقدة أصلاً ولم يقل به أحد، وبانا لا نسلم صحة الخبر، وبأن تنكير { عُقْدَةً } [طه: 27] يجوز أن يكون لقلتها في نفسها. ومن يجوز تعلقها بـِ { { ٱحْلُلْ } [طه: 27] كما ذهب إليه الحوفي واستظهره أبو حيان فإن المحلول إذا كان متعلقاً بشيء ومتصلاً به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضاً باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه، وعلى تقدير تعلقها بمحذوف وقع صفة لعقدة لا نسلم وجوب تقدير مضاف وجعل من تبعيضية، ولا مانع من أن تكون بمعنى في ولا تقدير أي عقدة في لساني بل قيل: ولا مانع أيضاً من جعلها ابتدائية مع عدم التقدير وأي فساد في قولنا: عقدة ناشئة من لساني. والحاصل أن ما استدل به على بقاء عقدة ما في لسانه عليه السلام وعدم زوالها بالكلية غير تام لكن قال بعضهم: إن الظواهر تقتضي ذلك وهي تكفي في مثل هذه المطالب وثقل ما في اللسان لا يخفف قدر الإنسان. وقد ذكر أن في لسان المهدي المنتظر رضي الله عنه حبسة وربما يتعذر عليه الكلام حتى يضرب بيده اليمني فخذ رجله اليسرى وقد بلغك ما ورد في فضله. وقال بعضهم: لا تقاوم فصاحة الذات إعراب الكلمات. وأنشد قول القائل:سر الفصاحة كامن في المعدن لخصائص الأرواح لا للألسن
وقول الآخر:لسان فصيح معرب في كلامه فياليته في موقف الحشر يسلم
وما ينفع الأعراب ان لم يكن تقي وما ضر ذا تقوى لسان معجم
/ نعم ما يخل بأمر التبليغ من رتة تؤدي إلى عدم فهم الوحي معها ونفرة السامع عن سماع ذلك مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام فهم كلهم فصحاء اللسان لا يفوت سامعهم شيء من كلامهم ولا ينفر عن سماعه وإن تفاوتوا في مرات تلك الفصاحة وكأنه عليه السلام إنما لم يطلب أعلا مراتب فصاحة اللسان وطلاقته عند الجبائي ومن وافقه لأنه لم ير في ذلك كثير فضل، وغاية ما قيل فيه إنه زينة من زينة الدنيا وبهاء من بهائها والفضل الكثير في فصاحة البيان بالمعنى المشهور في عرف أهل المعاني والبيان وما ورد مما يدل على ذم ذلك فليس على إطلاقه كما بين في شروح الأحاديث. ثم إن المشهور تفسير اللسان بالآلة الجارحة نفسها وفسره بعضهم بالقوة النطقية القائمة بالجارحة. والفقه العلم بالشيء والفهم كما في «القاموس» وغيره، وقال الراغب: ((هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم)). والظاهر هنا الفهم أي احلل عقدة من لساني يفهموا قولي. { وَٱجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هَـٰرُونَ أَخِى } أي معاوناً في تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر بكسر فسكون بمعنى الحمل الثقيل فهو في الأصل صفة من ذلك ومعناه صاحب وزر أي حامل حمل ثقيل، وسمي القائم بأمر الملك بذلك لأنه يحمل عنه وزر الأمور وثقلها أو ملجأ أعتصم برأيه على أن اشتقاقه من الوزر بفتحتين وأصله الجبل يتحصن به ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقاً كما في قوله:
شر السباع الضواري دونه وزر والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع وما ترى بشرا لم يؤذه بشر
وسمي وزير الملك بذلك لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أمره فهو فعيل بمعنى مفعول على الحذف والإيصال أي ملجوء إليه أو هو للنسب، وقيل: أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ففعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واواً كقلبها في موازر وقلبت فيه لانضمام ما قبلها ووزير بمعناه فحمل عليه وحمل النظير على النظير كثير في كلامهم إلا أنه سمع مؤازر من غير إبدال ولم يسمع أزير بدونه على أنه مع وجود الاشتقاق الواضح وهو ما تقدم لا حاجة إلى هذا الاشتقاق وادعاء القلب. ونصبه على أنه مفعول ثان لاجعل قدم على الأول الذي هو قوله تعالى: { هَـٰرُونَ } اعتناء بشأن الوزارة لأنها المطلوبة و { لِي } صلة للجعل أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من { وَزِيراً } وهو صفة له في الأصل و { مّنْ أَهْلِى } إما صفة لوزيراً أو صلة لاجعل، وقيل: مفعولاه { لّى وَزِيراً } و { مّنْ أَهْلِى } على ما مر من الوجهين و { هَـٰرُونَ } عطف بيان للوزير بناء على ما ذهب إليه الزمخشري والرضي من أنه لا يشترط التوافق في التعريف والتنكير، وقيل: هو بدل من { وَزِيراً }. وتعقب بأنه يكون حينئذٍ هو المقصود بالنسبة مع أن وزارته هي المقصودة بالقصد الأول هنا. وجوز كونه منصوباً بفعل مقدر في جواب من اجعل أي اعجل هٰرون، وقيل: مفعولاه { وَزِيراً مّنْ أَهْلِى } و { لِى } تبيين كما في سقيا له. واعترض بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما ولو ابتدأت بوزيراً وأخبرت عنه بمن أهلي لم يصح إذ لا مسوغ للابتداء به، وأجيب بأن مراد القائل: إن { مّنْ أَهْلِى } هو المفعول الأول لتأويله ببعض أهلي كأنه قيل اجعل بعض أهلي وزيراً فقدم للاهتمام به وسداد المعنى يقتضيه ولا يخفى / بعده، ومن ذلك قيل الأحسن أن يقال: إن الجملة دعائية والنكرة يبتدأ بها فيها كما صرح به النحاة فكذا بعد دخول الناسخ وهو كما ترى، وقيل: إن المسوغ للإبتداء بالنكرة هنا عطف المعرفة وهو { هَـٰرُونَ } عليها عطف بيان وهو غريب، وجوز في { هَـٰرُونَ } أيضاً على هذا القول كونه مفعولاً لفعل مقدر وكونه بدلاً وقد سمعت ما فيه.
والظاهر أنه يجوز في { لِى } عليه أيضاً أن يكون صلة للجعل كما يجوز فيه على بعض الأوجه السابقة أن يكون تبييناً. ولم يظهر لي وجه عدم ذكر هذا الاحتمال هناك ولا وجه عدم ذكر احتمال كونه صلة للجعل هنا. ويفهم من كلام البعض جواز كل من الاحتمالين هنا وهناك. وكذا يجوز أيضاً أن يكون حالاً من { وَزِيراً } ولعل ذلك مما يسهل أمر الانعقاد على ما قيل وفيه ما فيه. و { أَخِى } على الوجوه عطف بيان للوزير ولا ضير في تعدده لشيء واحد أو لهٰرون. ولا يشترط فيه كون الثاني أشهر كما توهم لأن الإيضاح حاصل من المجموع كما حقق في «المطول» و«حواشيه». ولا حاجة إلى دعوى أن المضاف إلى الضمير أعرف من العلم لما فيها من الخلاف. وكذا إلى ما في «الكشف» من أن { أَخِى } في هذا المقام أشهر من اسمه العلم لأن موسى عليه السلام هو العلم المعروف والمخاطب الموصوف بالمناجاة والكرامة والمتعرف به هو المعرفة في الحقيقة ثمَّ إن البيان ليس بالنسبة إليه سبحانه لأنه جل شأنه لا تخفى عليه خافية وإنما إتيان موسى عليه السلام به على نمط ما تقدم من قوله
{ هِىَ عَصَاىَ } [طه: 18] الخ. وجوز أن يكون { أَخِى } مبتدأ خبره { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى }.