التفاسير

< >
عرض

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ
٥٥
-طه

روح المعاني

{ مِنْهَا } أي من الأرض. { خَلَقْنَـٰكُمْ } أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السلام بل كانت أنموذجاً منطوياً على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجمالياً مستتبعاً لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام منها خلقاً للكل منها، وقيل: / المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } بالإماتة وتفريق الأجزاء، وهذا وكذا ما بعد مبني على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلى جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها إليها، وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية أو التارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة كما مر في المرة، وما ألطف ذكر قوله تعالى: { مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ } الخ بعد ذكر النبات وإخراجه من الأرض فقد تضمن كل إخراج أجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الأموات أشبه شيء بخروج النبات.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { طه } [طه: 1] يا طاهراً بنا هادياً إلينا أو يا طائف كعبة الأحدية في حرم الهوية وهادي الأنفس الزكية إلى المقامات العلية، وقيل: إن ط لكونها بحساب الجمل تسعة وإذا جمع ما انطوت عليه من الأعداد ـ أعني الواحد والإثنين والثلاثة ـ وهكذا إلى التسعة بلغ خمسة وأربعين إشارة إلى آدم لأن أعداد حروفه كذلك، وهـ لكونها بحساب الجمل خمسة وما انطوت عليه من الأعداد يبلغ خمسة عشر إشارة إلى حوا بلا همز، والإشارة بمجموع الأمرين إلى أنه صلى الله عليه وسلم أبو الخليقة وأمها فكأنه قيل: يا من تكونت منه الخليقة، وقد أشار إلى ذلك العارف بن الفارض قدس سره بقوله على لسان الحقيقة المحمدية:

وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي منه معنى شاهد بأبوتي

وقال في ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة:

طه النبـي تكونت من نوره كل البرية ثم لو ترك القطا

وقيل: { طه } في الحساب أربعة عشر وهو إشارة إلى مرتبة البدرية فكأنه قيل: يا بدر سماء عالم الإمكان { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ * إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ } [طه: 2-3] أي إلا لتذكر من يخشى أيام الوصال التي كانت قبل تعلق الأرواح بالأبدان وتخبرهم بأنها يحصل نحوها لهم لتطيب أنفسهم وترتاح أرواحهم أو لتذكرهم إياها ليشتاقوا إليها وتجري دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سبباً لعودها ولله تعالى در من قال:

سقى الله أياماً لنا ولياليا مضت فجرت من ذكرهن دموع
فيا هل لها يوماً من الدهر أوبة وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع

/ وقيل: من يخشى هم العلماء لقوله تعالى: { { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } [فاطر: 28]. ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عز وجل ليكون ذلك سوراً له مانعاً من تطرق شيء مما ذكر { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه: 5] العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط الذي هو مشرق أنوار القدم وشرفه بنسبة الاستواء الذي لا يكتنه، وقيل: خلق من أنوار أربعة مختلفة الألوان وهي أنوار سبحان الله والحمد لله ولا إلٰه إلا الله والله أكبر ولذا قيل له الأطلس، وإلى هذا ذهبت الطائفة الحادثة في زماننا المسماة بالكشفية. وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذي نسبة العرش المشهور إليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه، وفي «إحياء العلوم» لحجة الإسلام الغزالي قال الله تعالى: «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع» أي الساكن المطمئن، وفي «الرشدة» لصدر الدين القونوي قدس سره بلفظ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فإنها عند كل عاقل أحقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلاً عن أن تسعه سبحانه وتكون مطمح نظره الأعلى ومستواه عز شأنه وهي وإن سميت قلباً فإنما تلك التسمية على سبيل المجاز، وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الإنساني عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنتشىء من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلٰهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية، والقلب الصنوبري منزل تدلي الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التي هي صورة الحقيقة القلبية، ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما في مسلك الوسط الداني كونه مظهراً جامعاً للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئة وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه.

هذا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الخبر وإن استفاض عند الصوفية قدست أسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون، ((فقال العراقي: لم أر له أصلاً. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه الإمام أحمد في «الزهد» عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى فتح السمٰوات لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب فقال الله تعالى: إن السمٰوات والأرض ضعفن من أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين. نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامة الشمس ابن القيم في «شفاء العليل» ما نصه، وفي «المسند» وغيره عن النبـي صلى الله عليه وسلم: "القلوب آنية الله تعالى في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها" انتهى. وروى الطبراني من حديث أبـي عنبة الخولاني رفعه "إن لله تعالى آنية من [أهل] الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينها وأرقها" وهذا الحديث وإن كان في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا / أنه صرح فيه بالتحديث))؛ ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب إليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهي لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرؤيته، واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمية للإشارة إلى أن لكل أحد نصيباً من واسع رحمته جل وعلا. { وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7] قيل: السر أمر كامن في القلب كمون النار في الشجر الرطب حتى تثيره الإرادة لا يطلع عليه الملك ولا الشيطان ولا تحس به النفس ولا يشعر به العقل والأخفى ما في باطن ذلك. وعند بعض الصوفية السر لطيفة بين القلب والروح وهو معدن الأسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلٰهية وهو مهبط الأنوار الربانية وتفصيل ذلك في محله. وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على عدم مشروعية الجهر بالذكر والحق أنه مشروع بشرطه، واختلفوا في أنه هل هو أفضل من الذكر الخفي أو الذكر الخفي أفضل منه والحق فيما لم يرد نص على طلب الجهر فيه وما لم يرد نص على طلب الإخفاء فيه أنه يختلف الأفضل فيه باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان فيكون الجهر أفضل من الإخفاء تارة والإخفاء أفضل أخرى { { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ رَأَى نَاراً } [طه: 9-10] قال الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في «تنبيه العقول»: إن تلك النار كانت مجلى الله عز وجل وتجليه سبحانه فيها مراعاة للحكمة من حيث إنها كانت مطلوب موسى عليه السلام، واحتج على ذلك بحديث رواه عن ابن عباس رضي الله عنه وسنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: { { فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [النمل: 8] الآية { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } اترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة وسر مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا تلتفت إلى ما سواه سبحانه. { إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } [طه: 12] وهو وادي قدس جلال الله تعالى وتنزه عزته عز وجل، وقيل: النعلان إشارة إلى المقدمتين اللتين يتركب منهما الدليل لأنهما يتوصل بهما العقل إلى المقصود كالنعلين يلبسهما الانسان فيتوصل بالمشي بهما إلى مقصوده كأنه قيل: لا تلتفت إلى المقدمتين ودع الاستدلال فإنك في وادي معرفة الله تعالى المفعم بآثار ألوهيته سبحانه { فَٱعْبُدْنِى } قدم هذا الأمر للإشارة إلى عظم شرف العبودية، وثنى بقوله سبحانه { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه: 14] لأن الصلاة من أعلام العبودية ومعارج الحضرة القدسية. { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17] إيناس منه تعالى له عليه السلام فإنه عليه السلام دهش لما تكلم سبحانه معه بما يتعلق بالألوهية فسأله عن شيء بيده ولا يكاد يغلط فيه ليتكلم ويجيب فتزول دهشته، قيل وكذلك يعامل المؤمن بعد موته وذلك أنه إذا مات وصل إلى حضرة ذي الجلال فيعتريه ما يعتريه فيسأله عن الإيمان الذي كان بيده في الدنيا ولا يكاد يغلط فيه فإذا ذكره زال عنه ما اعتراه، وقيل: إن الله تعالى لما عرفه كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها ما هو أعظم نفعاً مما ذكره تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات الشيء الحاضر فلولا التوفيق كيف يمكنه الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها { { فَأَلْقَـٰهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [طه: 20] فيه إشارة إلى ظهور أثر الجلال ولذلك خاف موسى عليه السلام فقال سبحانه: { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } فهذا الخوف من كمال المعرفة لأنه لم يأمن مكر الله تعالى ولو سبق منه سبحانه الإيناس، وفي بعض الآثار «يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط». وقيل: كان خوفه من فوات المنافع المعدودة ولذا علل النهي بقوله تعالى: { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلاْولَىٰ } [طه: 21] وهذا جهل بمقام موسى عليه السلام. وكذا ما قيل: إنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام { { فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات: 50] ولو بلغه لم يفر. وما قيل: أيضاً لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في النقص الإمكاني ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده. { { وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء } [طه: 22] أراد سبحانه أن يريه آية نفسية بعد أن أراه عليه السلام آية آفاقية كما قال سبحانه: { سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ } [فصلت: 53] وهذا من نهاية عنايته جل جلاله. وقد ذكروا في هذه القصة نكات وإشارات منها أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } [طه: 17] حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيواناً والآخر وهو الكثيف نورانياً لطيفاً. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حياً مستنيراً، ومنها أن العصا قد استعدت بيمن يمين موسى عليه السلام للحياة وصارت حية فيكف لا يستعد قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن للحياة ويصير حياً. ومنها أن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء، ومنها أن قوله تعالى أولاً: { { ٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه: 12] إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الأغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأشار سبحانه إلى علم المبدأ بقوله تعالى: { إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ } وإلى علم الوسط بقوله عز وجل { { فاعْبُدْنِى وَأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرِى } [طه: 14] وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية وإلى علم المعاد بقوله سبحانه { { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ } [طه: 15] ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلاً: { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ } [طه: 13] وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا: { فَلاَ يَصدّنكَ عَنْهَا } - إلى - { { فَتَرْدَىٰ } [طه: 16] وهو قهر تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف، ومنها أن موسى عليه السلام كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيهاً على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلاً بنفسه وطالباً لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن لو الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه وحضرته جل جلاله. واستشكلت هذه الآية من حيث إنها تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام فيلزم مزيه الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسلام. والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما في البال أنه تعالى خاطب موسى عليه السلام في مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة والسلام في مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة والسلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه السلام وبذلك يجبر ما يتوهم في تأخير الخطاب بلا واسطة عن مبدأ الرسالة. وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم: { { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [النجم: 17] وقوله عن موسى عليه السلام: { { قَالَ هِيَ عَصَايَ } [طه: 18] الخ ترى الفرق واضحاً بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى الله تعالى عليهما وسلم. وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضاً عليهما الصلاة والسلام من وجه آخر وذلك / أن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا والنبـي صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلاً مع أمته وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولذا ورد في حقه { حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64] على معنى وحسب من اتبعك. وأيضاً إنه عليه السلام بدأ بمصالح نفسه في قوله: { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } ثم مصالح رعيته بقوله: { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِى } [طه: 18] والنبـي صلى الله عليه وسلم لم يشتغل إلا بإصلاح أمر أمته "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" ، فلا جرم يقول موسى عليه السلام يوم القيامة: نفسي نفسي والنبـي صلى الله عليه وسلم يقول: «أمتي أمتي» انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام بل لا فرق إلا بيسير جداً. ولعمري إنه لا ينبغي أن يقتدى به في مثل هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، وإنما نقلته لأنبه على عدم الاغترار به نعوذ بالله تعالى من الخذلان { { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } [طه: 25] لم يذكر عليه السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات. قال بعض الناس: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور. الأول ذاته جل شأنه { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النور: 35] الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم: { { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ } [المائدة: 15]، الثالث الكتاب { { وٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ } [الأعراف: 157]، الرابع الإيمان: { { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ } [التوبة: 32] الخامس عدل الله تعالى: { { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا } [الزمر: 69] السادس القمر { { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [نوح: 16] السابع النهار { { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1]. الثامن البينات { { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [المائدة: 44]. التاسع الأنبياء عليهم السلام { { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [النور: 35]؛ العاشر المعرفة { { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } [النور: 35] فكان موسى عليه السلام قال أولاً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } [طه: 25] بمعرفة أنوار جلال كبريائك، وثانياً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك، وثالثاً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك، ورابعاً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك، وخامساً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادساً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام، وسابعاً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك، وثامناً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك، وتاسعاً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابهاً لهم في الانقياد لحكم رب العالمين، وعاشراً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } بأن يجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى. ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم واغناء بعضه عن بعض، وقال أيضاً: إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج، ولا يخفى أن مستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، فالزند زند المجاهدة { وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِيْنَا } [العنكبوت: 69] والحجر حجر التضرع { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55] والحراق منع الهوى ونهي النفس عن الهوى والكبريت الإنابة { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ } [الزمر: 54] والمسرجة الصبر { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [البقرة: 45] والفتيلة الشكر { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7] والدهن الرضا { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ } [الطور: 48] أي ارض بقضائه، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلاً: { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } فهنالك تسمع { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 36] ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه، الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السمٰوات السبع { { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } [فاطر: 10]. الثاني الشمس تغيب / ليلاً وشمس المعرفة لا تغيب ليلاً: { { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 6] { وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [آل عمران: 17] { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1].

الليل للعاشقين ستر يا ليت أوقاته تدوم

الثالث الشمس تفنى { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوّرَتْ } [التكوير: 1] والمعرفة لا تفنى. { { أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [إبراهيم: 24] { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت، وشمس المعرفة وهي أشهد أن لا إلٰه إلا الله إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل النور إلى عالم الجوارح، الخامس الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيض الوجوه { { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106]، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد. السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الإحراق «جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبـي»، الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين { { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَٰوةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلٰهية بالعكس، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي، الحادي عشر الشمس تعرف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السلام بطلبه قائلاً { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلٰهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيماً والسور محكماً عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه. وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 7] { أُوْلَٰئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ } [المجادلة: 22] والفؤاد مقر المشاهدة { { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم: 11] واللب مقام التوحيد { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } [الرعد: 19] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي؛ وإنما سأل موسى عليه السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس وأيضاً شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضاً أنه عليه السلام راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطي المقصود فقيل: { { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 36] ولما اجترأ في طلب الرؤية قيل له: { { لَن تَرَانِى } [الأعراف: 143]، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السلام لربه عز وجل { { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } [طه: 25] وقول الرب لحبيبه صلى الله عليه وسلم { { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1] ويعلم منه أن الكليم عليه السلام مريد والحبيب صلى الله عليه وسلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر. ويزيد الفرق ظهوراً أن موسى عليه السلام في الحضرة الإلٰهية طلب لنفسه ونبينا صلى الله عليه وسلم حين قيل له هناك السلام عليك أيها النبـي قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا النمط فارجع إليه إن أردته { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِى * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } [طه: 27-28] كأنه عليه السلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلٰهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار. ولذا ترى كثيراً من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية / في شرح الأسرار الألٰهية وقيل: إنه عليه السلام سأل حل عقدة الحياء فإنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا. ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به إرشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به إرشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه: { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 1ـ4] من غير توسيط عاطف. وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة، وقال رضي الله عنه: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه، وقال رضي الله تعالى عنه: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وقال زهير:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم:

يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل

وفي « نوابغ الكلم» قِ فاك لا يقرع قفاك، والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية، فالحق ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "رحم الله تعالى امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم" . وذكر في وجه عدم طلبه عليه السلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له { وَٱجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هَـٰرُونَ أَخِى * ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى } [طه: 29-32] فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك، وفيه إشارة أيضاً إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوي القرابة:

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وفي تقديم موسى عليه السلام مع أنه أصغر سناً على هٰرون عليه السلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } [طه: 35] في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى، وهو من أحسن الوسائل عند الله عز وجل. ومن آثار ذلك استجابة الدعاء { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } [طه: 37] تذكير له عليه السلام بما يزيد إيقانه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يرد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان، ومن هنا قيل: إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع إلا من الطريق { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه: 41] أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ } أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقاً بأخلاقهم متحلياً بآدابهم صالحاً للحضرة. ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار { ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } [طه: 40] وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار { ٱذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } [طه: 43] جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك أثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا: وصاحبه معذور / وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلاً وفرعون. وأهل الغيرة بالله تعالى يقولون: لا فرق { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44] فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد، وقال النهرجوري: إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه { مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [طه: 55] إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت، وقد أشرقت على هذه الأشباح { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا } [الزمر: 96] والله تعالى أعلم. وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلاً والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.