التفاسير

< >
عرض

وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى
٧
-طه

روح المعاني

{ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ } الخ بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان شمول قدرته تعالى لجميع الكائنات، والخطاب على ما قاله في «البحر» للنبـي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته عليه الصلاة والسلام، وجوز أن يكون عاماً أي وإن ترفع صوتك أيها الإنسان بالقول { فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ } أي ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع صوتك به { وَأَخْفَى } أي وشيئاً أخفى منه وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلاً، وروي ذلك عن الحسن وعكرمة أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها وروي ذلك عن سعيد بن جبير. وروي عن السيدين الباقر والصادق السر ما أخفيته في نفسك والأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته.

وقيل: { أَخْفَىٰ } فعل ماض عطف على { يَعْلَمْ } يعني أنه تعالى يعلم أسرار العباد وأخفى ما يعلمه سبحانه عنهم وهو كقوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه: 110]، وروى ذلك أبو الشيخ في «العظمة» عن زيد بن أسلم وهو خلاف الظاهر جداً؛ فالمعول عليه أنه أفعل تفضيل والتنكير للمبالغة في الخفاء، والمتبادر من القول ما يشمل ذكر الله تعالى وغيره وإليه ذهب بعضهم، وخصه جماعة بذكره سبحانه ودعائه على أن التعريف للعهد لأن استواء الجهر والسر عنده سبحانه المدلول عليه في الكلام يقتضي أن الجهر المذكور في خطابه عز وجل، وعلى القولين قوله تعالى: { فَإِنَّهُ } الخ قائم مقام جواب الشرط وليس الجواب في الحقيقة لأن علمه تعالى السر وأخفى ثابت قبل الجهر بالقول وبعده وبدونه.

والأصل عند البعض وإن يجهر بالقول فاعلم أن الله تعالى يعلمه فإنه يعلم السر وأخفى فضلاً عنه. وعند الجماعة وإن تجهر فاعلم أن الله سبحانه غني عن جهرك فإنه الخ، وهذا على ما قيل إرشاد للعباد إلى التحري والاحتياط حين الجهر فإن من علم أن الله تعالى يعلم جهره لم يجهر بسوء، وخص الجهر بذلك لأن أكثر المحاورات ومخاطبات الناس به، وقيل: إرشاد للعباد إلى أن الجهر بذكر الله تعالى ودعائه ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة وغير ذلك، وقيل: نهى عن الجهر بالذكر والدعاء كقوله تعالى: { { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ } [الأعراف: 205].

وأنت تعلم أن القول بأن الجهر بالذكر والدعاء منهي لا ينبغي أن يكون على إطلاقه. والذي نص عليه الإمام النووي في «فتاويه» أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعياً مشروع مندوب إليه بل هو أفضل من الإخفاء في مذهب الإمام الشافعي وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد وإحدى الروايتين عن الإمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وهو قول لقاضيخان في «فتاويه» في ترجمة مسائل كيفية القراءة وقوله في باب غسل الميت: ويكره رفع الصوت بالذكر، فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية لا مطلقاً كما تفهمه عبارة «البحر الرائق» وغيره وهو قول الإمامين في تكبير عيد الفطر كالأضحى، ورواية عن الإمام أبـي حنيفة نفسه رضي الله تعالى عنه بل في «مسنده» ما ظاهره استحباب الجهر بالذكر مطلقاً، نعم قال / ابن نجيم في «البحر» نقلاً عن المحقق ابن الهمام في «فتح القدير» ما نصه قال أبو حنيفة: رفع الصوت بالذكر بدعة مخالفة للأمر من قوله تعالى: { { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [الأعراف: 205] الآية فيقتصر على مورد الشرع، وقد ورد به في الأضحى وهو قوله سبحانه: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ } [البقرة: 203].

وأجاب السيوطي في «نتيجة الذكر» عن الاستدلال بالآية السابقة بثلاثة أوجه، ((الأول: أنها مكية ولما هاجر صلى الله عليه وسلم سقط ذلك، الثاني: أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير حملوا الآية على الذكر حال قراءة القرآن وأنه أمر له عليه الصلاة والسلام بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله تعالى: { { وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ } [الأعراف: 204] الآية، الثالث: ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبـي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل وأما غيره عليه الصلاة والسلام ممن هو محل الوساوس فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيراً في دفعها)) وفيه ما فيه.

واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلاً في المأمور به، فقد صح ما يزيد على عشرين حديثاً في أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يجهر بالذكر. وصح عن أبـي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه لذلك، وما في «الصحيحين» من حديث أبـي موسى الأشعري قال: "كنا مع النبـي صلى الله عليه وسلم وكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنه معكم إنه سميع قريب" محمول على أن النهي المستفاد التزاماً من أمر اربعوا الذي بمعنى ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم مراد به النهي عن المبالغة في رفع الصوت، وبتقسيم الجهر واختلاف أقسامه في الحكم يجمع بين الروايتين المختلفتين عن الإمام أبـي حنيفة، وما ذكر في الواقعات عن ابن مسعود من أنه رأى قوماً يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد لا يصح عند الحفاظ من الأئمة المحدثين، وعلى فرض صحته هو معارض بما يدل عليه ثبوت الجهر منه رضي الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ أو محمول على الجهر البالغ، وخبر «خير الذكر الخفي وخير الرزق أو العيش ما يكفي» صحيح. وعزاه الإمام السيوطي إلى الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي عن سعد بن أبـي وقاص، وعزاه أبو الفتح في «سلاح المؤمن» إلى أبـي عوانة في «مسنده» الصحيح أيضاً، وهو محمول على من كان في موضع يخاف فيه الرياء أو الإعجاب أو نحوهما، وقد صح أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام جهر بالدعاء وبالمواعظ لكن قال غير واحد من الأجلة: إن إخفاء الدعاء أفضل.

وحد الجهر على ما ذكره ابن حجر الهيتمي في «المنهج القويم» أن يكون بحيث يسمع غيره والإسرار بحيث يسمع نفسه. وعند الحنفية في رواية أدنى الجهر إسماع نفسه وأدنى المخافتة تصحيح الحروف وهو قول الكرخي. وفي «كتاب الإمام محمد» إشارة إليه، والأصح كما في «المحيط» قول الشيخين الهندواني والفضلي وهو الذي عليه الأكثر أن أدنى الجهر إسماع غيره وأدنى المخافتة إسماع نفسه. ومن هنا قال في «فتح القدير»: إن تصحيح / الحروف بلا صوت إيماءاً إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف إذ الحروف كيفية تعرض للصوت فإذا انتفى الصوت المعروض انتفى الحرف العارض وحيث لا حرف فلا كلام بمعنى المتكلم به فلا قراءة بمعنى التكلم الذي هو فعل اللسان فلا مخافتة عند انتفاء الصوت كما لا جهر انتهى محرراً. وقد ألف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمى أولاهما: ـ «نشر الزهر في الذكر بالجهر» ـ وثانيتهما: «بإتحاف المنيب الأواه بفضل الجهر بذكر الله» ـ رد فيها على بعض أهل القرن التاسع من علماء الحنفية من أعيان دولة ميرزا ألغ بيك بن شاه دخ الكوركاني حيث أطلق القول بكون الجهر بالذكر بدعة محرمة وألف في ذلك «رسالة»، ولعله يأتي إن شاء الله تعالى زيادة بسط لتحقيق هذه المسألة والله تعالى الموفق.