التفاسير

< >
عرض

كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ
٨١
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ
٨٢
-طه

روح المعاني

{ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ } أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع. وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكرهم وإتماماً للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفاً { رزقتكم } وقدم سبحانه نعمة الإنجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلاً إلينا، وثنى جلا وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتباً لمن يبيع الدين بالدنيا.

{ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدي حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل: أي لا تدخروا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { وَلاَ تطغوا } بضم الغين { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } جواب للنهي أي فيلزمكم غضبـي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب أداؤه وأصله من الحلول وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَىٰ } أي هلك / وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل: أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج. وفي بعض الآثار أن في جهنم قصراً يرمي الكافر من أعلاه فيهوى في جهنم أربعين خريفاً قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى: { فَقَدْ هَوَىٰ } فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه. وقرأ الكسائي { فيحل } بضم الحاء { ومن يحلل } بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة وأبـي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتبة في { يحلل } فضم، وفي «الإقناع» لأبـي علي الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة { لا يحلن عليكم } بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي كتاب «اللوامح» قرأ قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش { فيحل } بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال ففاعله ضمير الطغيان و { غَضَبِي } مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في «الكشاف». وفي «المصباح» حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وفي الحديث "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه" وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعاً وأريد معنى لائق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلول حقيقة على بعض الاحتمالات ومجاز على بعض آخر، وفي «الانتصاف» ((أن وصفه بالحلول لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" على التأويل المعروف أو عبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيراً عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها)).

{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ } كثير المغفرة { لّمَن تَابَ } من الشرك على ما روي عن ابن عباس، وقيل: منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق { وَآمَنَ } بما يجب الإيمان به. واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الإيمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصار على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك { وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً } أي عملاً مستقيماً عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والسنة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بأداء الفرائض { ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر. والهدى يحتمل أن يراد به الإيمان، وقد صرح سبحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [فصلت: 30]. وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والايمان والعمل الصالح وأياً ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل:

لكل إلى شاو العلى وثبات ولكن قليل في الرجال ثبات

/ وقيل: المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثواباً يجزي عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل: المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة كالعجب والحسد والكبر وغيرها، وقال ابن عطية: الذي يقوى في معنى { ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح.

وروى الإمامية من عدة طرق عن أبـي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فوالله لو أن رجلاً عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولا يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه. وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار. نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال له «يا جارود ليلة أسري بـي إلى السماء أوحى الله عز وجل إليَّ أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت: علام بعثوا؟ قال: على نبوتك وولاية علي بن أبـي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم بأسمائهم ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أسماءهم واحداً بعد واحد إلى المهدي وهو خبر طويل يتفجر الكذب منه. ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل.

والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة. وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم تحققها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق أعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلاً للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولاً ثم الإتيان بالإيمان ثانياً لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضاً من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضي للمغايرة.