التفاسير

< >
عرض

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ
٦٣
-الأنبياء

روح المعاني

{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل. واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام. وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام قد حلف بقوله { { تَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ } [الأنبياء: 57] الخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا { مَن فَعَلَ هَـٰذَا } [الأنبياء: 59] الخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام. ولقائل أن يقول: إن الحلف كما قاله كثير كان سراً أو سمعه رجل واحد، وقوله سبحانه: { { قَالُواْ سَمِعْنَا } [الأنبياء: 60] الخ مع قوله تعالى: { { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا } [الأنبياء: 59] الخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون { { أانت فَعَلْتَ هَـٰذَا } [الأنبياء: 62] كلام ذلك البعض. وقد يقال: إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر / فأأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل.

وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكاً تعريضياً يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولاً في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلاً بجعل الفأس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسناداً مجازياً عقلياً باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبـي من زيادة تعظيم هذا، وإنما لم يكسره وإن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة، وتسمية ذلك كذباً كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقيل في توجيه ذلك أيضاً: إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة.

ويحكى أنه عليه السلام قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها، قيل: فيكون حينئذٍ تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام، وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمناً فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له: بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك. وتعقبه صاحب «الفرائد» بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائراً بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثاً. ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في { { أأنت فَعَلْتَ } [الأنبياء: 62] تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري.

نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبـىء عنه قوله تعالى: { فَاسْـئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا، وقيل إن { فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } جواب قوله: { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } معنى وقوله: { فَٱسْأَلُواْ } جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله:

فاعلم فعلم المرء ينفعه

فيكون كون الكبير فاعلاً مشروطاً بكونهم ناطقين ومعلقاً به وهو محال فالمعلق به كذلك، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر، وقيل: إن الكلام تم عند قوله: { فَعَلَهُ } والضمير المستتر فيه يعود على { { فَتًى } [الأنبياء: 60] أو إلى { إِبْراهِيم }، ولا يخفى أن كلاً من (فتى) و(إبراهيم) مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذٍ والمناسب في الجواب نعم، ولا مقتضي للعدول عن الظاهر هنا كما قيل، وعزي إلى الكسائي أنه جعل الوقف على { فَعَلَهُ } أيضاً إلا أنه قال: الفاعل محذوف أي فعله من فعله.

/ وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه. وقيل يجوز أن يقال: إنه أراد بالحذف الإضمار، أكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء، وقيل الوقف على { كَبِيرُهُمْ } وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان، ومثله أن يراد به الله عز وجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها، ويعزى للفراء أن الفاء في { فَعَلَهُ } عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف. واستدل عليه بقراءة ابن السميقع { فَعَلَهُ } مشدد اللام، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا التخريج، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها.

وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلاً وأن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وإنما قال عليه السلام: { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضاً لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل، وقد حصل ذلك حسبما نطق به قوله تعالى: { فَرَجَعُواْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ }