التفاسير

< >
عرض

قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
-الأنبياء

روح المعاني

أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي برداً غير ضار، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه أحمد وغيره: لو لم يقل سبحانه: { وَسَلَـٰماً } لقتله بردها. وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأمورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقيل: نصب { سَلاَماً } بفعله أي وسلمنا سلاماً عليه، والجملة عطف على { قُلْنَا } وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار. روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي إبراهيم عليه السلام فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين يوماً، وقال عليه السلام: ما كنت أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها، قال ابن إسحاق: وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليهما السلام يؤنسه، قالوا: وبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل عليه السلام: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابـي، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا إبراهيم كبير إلٰهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال إبراهيم عليه السلام: نعم قال: هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك؟ قال: لا قال: فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه، وقال له: يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إليَّ ربـي ليؤنسني فيها فقال: يا إبراهيم إني مقرب / إلى إلٰهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له إبراهيم عليه السلام: إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ستة عشرة سنة، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قالوا: إنه سحر النار فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالماً لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام: إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هارون فأحرقته، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبـي صلى الله عليه وسلم أن أبا لوط قال وكان عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقاً من النار فأحرقه، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في «البحر»: قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام برداً وسلاماً.

ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها { كُونِى بَرْداً } الخ وأن هناك قولاً حقيقة، وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه، وقيل قول ذلك مجاز عن جعلها باردة، والظاهر أيضاً أن الله عز وجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق، وقيل إنها انقلبت هواءً طيباً وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى: { عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظراً إلى مفهوم اللقب إذ الأكثرون على عدم اعتباره. وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده.

وأياً ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبـي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفاراً فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفراً وإن كان معها ما لا كفر فيه، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلى الله عليه وسلم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعاً للسنة وأشدهم تجنباً عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل أتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ، قال في «العبر»: قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التاتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى.

والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطاً لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلاً، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل / له تغير حال لم يقدر على مس جمرة، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر، والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون، وقد رأيت منهم من يأخذ زق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنوراً كبيراً تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء، وأقرب ما يقال في مثل ذلك إنه استدراج وابتلاء، وأما أن يقال: إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة.

هذا واستدل بالآية من قال: إن الله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلاً بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلاً وفي تلك خاصة الإحراق مثلاً لكن لا تحرق هذه ولا يروى ذاك إلا بإذنه عز وجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال ولا قائل بالفرق فتأمل.