التفاسير

< >
عرض

فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ
٤٥
-الحج

روح المعاني

وقوله تعالى: { فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: { أَهْلَكْنَـٰهَا } أي فأهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها، والجملة بدل من قوله / سبحانه { { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج: 44] أو مرفوع على الابتداء وجملة { أَهْلَكْنَـٰهَا } خبره أي فكثير من القرى أهلكناها، واختار هذا أبو حيان قال: الأجود في إعراب { كَأَيّن } أن تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل. وقرأ أبو عمرو وجماعة { أهلكتها } بتاء المتكلم على وفق { { فَأمْلَيْتُ لِلْكَـٰفِرِينَ ثم أخذتهم } [الحج: 44] ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها، ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف، وقيل: الإهلاك استعارة لعدم الانتفاع بها بإهلاك أهلها.

وقوله تعالى: { وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ } جملة حالية من مفعول (أهلكنا)، وقوله تعالى: { فَهِىَ خَاوِيَةٌ } عطف على { أَهْلَكْنَـٰهَا } فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه، ويجوز عطفه على جملة { كَأَيّن } الخ الاسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل، والفاء غير مانعة بناء على ترتب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك، وجوز عطفه على الجملة الحالية، واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده، وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال هي حال مقارنة أيضاً بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم، ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر، والخواء إما بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط، وقوله تعالى: { عَلَىٰ عُرُوشِهَا } متعلق به، والمراد بالعروش السقوف، والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وإما بمعنى الخلو من خوت الدار تخوى خواء إذا خلت من أهلها، ويقال: خوى البطن يخوي خوى إذا خلا من الطعام، وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوى النجم من ذلك فقال: يقال خوى النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك فقوله تعالى: { عَلَىٰ عُرُوشِهَا } إما متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالاً، و { عَلَىٰ } بمعنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها، ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون { عَلَىٰ عُرُوشِهَا } خبراً بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة، وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفاً.

{ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } عطف على { قَرْيَةٌ } والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على (أبْآر وآبار وأبؤر وآبُر وبِئار)، وتعطيل الشيء إبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها. وقرأ الجحدري والحسن وجماعة { مُّعَطَّلَةٍ } بها لتخفيف من أعطله بمعنى عطله.

{ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } عطف على ما تقدم أيضاً أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبني بالشيد بالكسر أي الجص أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل وهذا يؤيد كون معنى { خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } خالية مع بقاء عروشها، وفي «البحر» ينبغي أن يكون { بئر. وَقَصْرٍ } من حيث عطفهما على { قَرْيَةٌ } داخلين معها في حيز الإهلاك مخبراً به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما. وزعم بعضهم عطفهما على { عُرُوشِهَا } وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني. / وعن الضحاك وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرموت والبئر بسفحه وأن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبنى ويضاف لأن صالحاً عليه السلام حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم. وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد.