التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٢
-الحج

روح المعاني

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ } «من» الأولى ابتدائية، والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبـي حيان، وقيل: في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62] والظاهر أن «إذا» شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا: إن «إلا» في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيداً إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى: { { وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ } [الحجر: 11] الخ أو يكون الماضي مصحوباً بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذ لم يلها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في «البحر» بأن «إذا» جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو «ألقى» وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف «نبي» على «رسول» يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضاً ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً، وقد أخرج ذلك ـ كما قال السيوطي ـ أحمد وابن راهويه في «مسنديهما» من حديث أبـي أمامة، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» والحاكم في «مستدركه» من حديث أبـي ذر. وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة؛ وجاء في رواية الرسل ثلثمائة وخمسة عشر.

واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبـي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن / جديداً في نفسه كإسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولاً والنبـي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل: الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بياناً وتفصيلاً لشرع سابق والنبـي من أوحي إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلاً أو أعم منه ومن الرسول، وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه والنبـي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبـي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول من يأتيه الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبـي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير، وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا مناماً وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي.

وأنت تعلم أن المشهور أن النبـي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبـي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأموراً بالتبليغ فيكون رسولاً فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبـي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبـي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبـي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما.

والتمني ـ على ما قال أبو مسلم ـ نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد: التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما:

تمنى كتاب الله أول ليلة تمني داود الزبور على رسل

وفي «البحر» أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبـي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئاً فشيئاً، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبـي صلى الله عليه وسلم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولاً ولا نبياً إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئاً من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى: { { وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ } [الأنعام: 121] وقال سبحانه { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [الأنعام: 112] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم { { حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } [البقرة: 173] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى.

{ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبـي صلى الله عليه وسلم لرده أو بإنزال ما يرده { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ ءايَـٰتِهِ } أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، و { ثُمَّ } للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلا رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات إحكام آياته تعالى الباهرة. ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار «الشيطان» { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه { حَكِيمٌ } في كل / ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار هٰهنا لما ذكر أيضاً مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي.