التفاسير

< >
عرض

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
٥٩
ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٦٠
-الحج

روح المعاني

/ وقوله تعالى: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه: { { لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ } [الحج: 58] أو بدل منه مقصود منه تأكيده. و { مُّدْخَلاً } إما اسم مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، أو مصدر ميمي، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل على الثاني: إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام. وقرأ أهل المدينة { مُّدْخَلاً } بالفتح والباقون بالضم.

{ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ } بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم { حَلِيمٌ } فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضاً مناسبة لما بعد.

{ ذٰلِكَ } قد حقق أمره { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } أي من جازى الجاني بمثل ماجنى به عليه، وتسمية ما وقع ابتداء عقاباً مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سبباً للجزاء أطلق عليه مجازاً مرسلاً بعلاقة السببية، وقال بعض المحققين: يجوز أن يقال: لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية، و { مِنْ } موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها، والجملة مستأنفة، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للآلة وإليه ذهب أبو البقاء، وقال الخفاجي: باء { بِمَثَلٍ } آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى: { بِهِ } والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للآلة وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل. { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ } بالمعاودة إلى العقاب { لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ } على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه.

{ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى: { { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } [الشورى: 40]. { { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [البقرة: 237] { { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43] بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعي الشريطة وهي عدم العدوان. وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية.

وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع. وثانيها: أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده. قال في «الكشف»: فهو أي { إِنَّ ٱللَّهَ } الخ على هذا أيضاً تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه، وفيه إدماج أيضاً للحث على العفو وهذا وجه وجيه اهـ، وثالثها: أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولاً إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى: { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } والخبر الآخر قوله تعالى: { لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ } فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إخلاله ثانياً بذلك. / وجعل ذلك بعضهم من التقديم والتأخير ولا ضرورة إليه، وقيل: إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك.

ونقل الطيبـي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر المسلمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية، ثم قال: فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظة { ذٰلِكَ } فصل للخطاب وقوله تعالى: { وَمَنْ عَاقَبَ } شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه { { وَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } [الحج: 58] الآيتين اهـ.

وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغياً ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر، وأما الموافقة لتأليف النظم فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم والميتين منهم قيل الأمر ذلك فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصاً وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة، وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب اهـ، وهو كلام رصين، ولا يعكر عليه قولهم: إنه أتى بذلك للاقتضاب فتأمل. وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات.

واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص، وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في الخبر والمراد به السلاح وخبر «من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه» لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة، وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا: إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حُدَّ هو والقائل الأول فليحفظ.