التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١
-النور

روح المعاني

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ } أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وكثيراً ما يفسر بالكذب مطلقاً، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك، وجوز فيه فتح الهمزة والفاء وأصله من الأفك بفتح فسكون وهو القلب والصرف لأن الكذب مصروف عن الوجه الذي يحق، والمراد به ما أفك به الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، على أن اللام فيه للعهد، وجوز حمله على الجنس قيل فيفيد القصر كأنه لا إفك إلا ذلك الإفك. وفي لفظ المجىء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل. وتفصيل القصة ما أخرجه البخاري وغيره عن عروة "عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله / صلى الله عليه وسلم معه ـ قالت عائشة ـ فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل الحجاب فأنا أُحْمَلُ في هودجي وأُنْزَلُ فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من [غزوته] تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل [فقمت حين آذنوا بالرحيل] فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم إنما نأكل العُلْقَة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني [حين رآني] وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابـي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها فركبتها فانطلق يقود بـي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيَّ من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبـي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبـي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبـي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل [يحبها] ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت: فقلت سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ابن أبـي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيراً وأما علي بن أبـي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل / الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبـي ابن سلول قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد [بن معاذ] فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظناني أن البكاء فالق كبدي قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل فيَّ ما قيل قبلها وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبـي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أُحس منه قطرة فقلت لأبـي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي: أجيبـي رسول الله قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني برية والله يعلم أني برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه برية لتصدقني والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبـي يوسف { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } [يوسف: 18] [قالت ثم تحولت] فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني برية وأن الله مبرئني ببراءتي ولكن [والله] ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه قالت: فلما سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرِّيَ عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت أمي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم [إليه] ولا أحمد إلا الله وأنزل الله { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَاءوا بِٱلإفْكِ } [النور: 11]" العشر الآيات كلها.

والظاهر أن قوله تعالى: / { عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } خبر { إِنَّ } وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء، وقال ابن عطية: هو بدل من ضمير { جاؤوا } والخبر جملة قوله تعالى: { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } والتقدير إن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون { عُصْبَةٌ } الخبر انتهى، ولا يخفى أنه تكلف. والفائدة في الإخبار على الأول قيل: التسلية بأن الجائين بذلك الإفك فرقة متعصبة متعاونة، وذلك من أمارات كونه إفكاً لا أصل له، وقيل: الأولى أن تكون التسلية بأن ذلك مما لم يجمع عليه بل جاء به شرذمة منكم، وزعم أبو البقاء أنه بوصف العصبة بكونها منهم أفاد الخبر، وفيه نظر. والخطاب في { مّنكُمْ } على ما أميل إليه لمن ساءه ذلك من المؤمنين ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وأم رومان وعائشة وصفوان دخولاً أولياً.

وأصل العصبة الفرقة المتعصبة قلت أو كثرت وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين وعليه اقتصر في «الصحاح» وتطلق على أقل من ذلك ففي مصحف حفصة { عصبة أربعة }. وقد صح أن عائشة رضي الله تعالى عنها عدت المنافق عبد الله بن أبـي ابن سلول وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله تعالى عنها وزوجة طلحة بن عبيد الله ومسطح ابن أثاثة وحسان بن ثابت، ومن الناس من برأ حسان وهو خلاف ما في «صحيح البخاري» وغيره. نعم الظاهر أنه رضي الله تعالى عنه لم يتكلم به عن صميم قلب وإنما نقله عن ابن أبـي لعنه الله تعالى، وقد جاء أنه رضي الله تعالى عنه اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها فقال:

حصان رزان ماتزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبـي الهدى ذي المكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم تقاصر عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ولكنه قول امرىء بي ما حل

وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تكرمه بعد ذلك وتذكره بخير وإن صح أنها قالت له حين أنشدها أول هذه الأبيات: لكنك لست كذلك، فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تأذن لحسان وتدعو له بالوسادة وتقول: لا تؤذوا حساناً فإنه كان ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه. وأخرج ابن جرير من طريق الشعبـي عنها أنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبـي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبـي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفؤ فشركما لخيركما الفداء
/ لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء

وعد بعضهم مع الأربعة المذكورين زيد بن رفاعة ولم نر فيه نقلاً صحيحاً، وقيل إنه خطأ.

ومعنى { مّنكُمْ } من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام سواء كان كذلك في نفس الأمر أم لا فيشمل ابن أبـي لأنه ممن ينتمي إلى الإسلام ظاهراً وإن كان كافراً في نفس الأمر، وقيل إن قوله تعالى: { مّنكُمْ } خارج مخرج الأغلب وأغلب أولئك العصبة مؤمنون مخلصون، وكذا الخطاب في { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } وقيل: الخطاب في الأول للمسلمين وفي هذا لسيد المخاطبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبـي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والكلام مسوق لتسليتهم. وأخرج ابن أبـي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير أن الخطاب في الثاني لعائشة وصفوان، وأبعد عن الحق من زعم أنه للذين جاؤوا بالإفك وتكلف للخيرية ما تكلف، ولعل نسبته إلى الحسن لا تصح. والظاهر أن ضمير الغائب في { لاَ تَحْسَبُوهُ } عائد على الإفك. وجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من { جَآءُوا } وعلى ما نال المسلمين من الغم والكل كما ترى، وعلى ما ذهب إليه ابن عطية يعود على المحذوف المضاف إلى اسم (إن) الذي هو الاسم في الحقيقة؛ ونهوا عن حسبان ذلك شراً لهم إراحة لبالهم بإزاحة ما يوجب استمرار بلبالهم.

وأردف سبحانه النهي عن ذلك بالإضراب بقوله عز وجل: { لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } اعتناء بأمر التسلية، والمراد بل هو خير عظيم لكم لنيلكم بالصبر عليه الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله عز وجل بإنزال ما فيه تعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم بما أحزنكم، والآيات المنزلة في ذلك على ما سمعت آنفاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها عشرة. وأخرج ابن أبـي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت ثماني عشرة آية متواليات بتكذيب من قذف عائشة وبراءتها. وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: إنه سبحانه أنزل فيها خمس عشرة آية من سورة النور ثم قرأ حتى بلغ { { ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ } [النور: 26] وكأن الخلاف مبني على الخلاف في رؤس الآي، وفي كتاب «العدد» للداني ما يوافق المروي عن ابن جبير.

{ لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ } أي من الذي جاؤوا بالإفك { مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإثْمِ } أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض فيه فإن بعضهم تكلم وبعضهم ضحك كالمعجب الراضي بما سمع وبعضهم أكثر وبعضهم أقل. { وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ } بكسر الكاف. وقر الحسن والزهري وأبو رجاء ومجاهد والأعمش وأبو البرهسم وحميد وابن أبـي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وعمرة بنت عبد الرحمن وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبـي عمرو { كبره } بضم الكاف وهو ومكسورها مصدران لكبر الشيء عظم ومعناهما واحد، وقيل: الكبر بالضم المعظم وبالكسر البداءة بالشيء، وقيل: الإثم، والجمهور على الأول أي والذي تحمل معظمه { مِنْهُمْ } أي من الجائين به { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. وفي التعبير بالموصول وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى.

والمراد بالذي تولى كبره كما في «صحيح البخاري» عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عبد الله بن أبـي عليه اللعنة وعلى ذلك أكثر المحدثين. / وكان لعنه الله تعالى يجمع الناس عنده ويذكر لهم ما يذكر من الإفك، وهو أول من اختلقه وأشاعه لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذابه في الآخرة بعد جعله في الدرك الأسفل من النار لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، وأما في الدنيا فوسمه بميسم الذل وإظهار نفاقه على رؤس الأشهاد وحده حدين على ما أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت الآيات خرج إلى المسجد فدعا أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله تعالى من البراءة لعائشة وبعث إلى عبد الله بن أبـي فجيء به فضربه عليه الصلاة والسلام حدين وبعث إلى حسان ومسطح وحمنة فضربوا ضرباً وجيعاً ووجئوا في رقابهم، وقيل: حد حداً واحداً، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه فسر العذاب في الدنيا بجلد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ثمانين جلدة وعذابه في الآخرة بمصيره إلى النار، وقيل: إنه لم يحد أصلاً لأنه لم يقر ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيراً لجزائه إلى يوم القيامة كما أنه لم يلتزم إقامة البينة على نفاقه وصدور ما يوجب قتله لذلك وفيه نظر.

وزعم بعضهم أنه لم يحد مسطح، وآخرون أنه لم يحد أحد ممن جاء بالإفك إذ لم يكن إقرار ولم يلتزم إقامة بينة. وفي «البحر» أن المشهور حد حسان ومسطح وحمنة، وقد أخرجه البزار وابن مردويه بسند حسن عن أبـي هريرة، وقد جاء ذلك في أبيات ذكرها ابن هشام في «ملخص السيرة» لأبن اسحٰق وهي:

لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيراً ومسطح
تعاطوا برجم الغيب أمر نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فانزحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي بغي يمموها وفضحوا
وصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

وقيل: الذي تولى كبره حسان، واستد بما في «صحيح البخاري» أيضاً عن مسروق قال: دخل حسان على عائشة فشبب وقال حصان البيت قالت: لكنك لست كذلك قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى: { { وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 11] فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، وجاء في بعض الأخبار أنها قيل لها: أليس الله تعالى يقول: { وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ } الآية؟ فقالت: أليس أصابه عذاب عظيم أليس قد ذهب بصره وكسع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربها إياه صفوان حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك، فإنه يروى أنه ضربه بالسيف على رأسه لذلك ولأبيات عرض فيها به وبمن أسلم من العرب من مضر وأنشد:

تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمى حماي وأتقى من الباهت الرأي البرىء والظواهر

وكاد يقتله بتلك الضربة. فقد روي ابن إسحٰق أنه لما ضربه وثب عليه ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحرث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراد إلا قد قتله فقال له عبد الله: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وبما صنعت؟ قال: لا والله قال: لقد اجترأت اطلق الرجل فأطلقه فأتوا رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان: يا رسول الله ءاذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال صلى الله عليه وسلم: يا حسان أتشوهت على قومي بعد أن هداهم الله تعالى للإسلام / ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك فقال: هي لك يا رسول الله فعوضه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بيرحاء وكان طلحة بن سهل أعطاها إياه عليه الصلاة والسلام ووهبه أيضاً سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان.

وفي رواية في «صحيح البخاري» عن عائشة أيضاً رضي الله تعالى عنها أنها قالت في { ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ } هو أي المنافق ابن أبـي وحمنة، وقيل: هو وحسان ومسطح، وعذاب المنافق الطرد وظهور نفاقه وعذاب الأخيرين بذهاب البصر، ولا يأبى إرادة المتعدد إفراد الموصول لما في «الكشف» من أن { ٱلَّذِى } يكون جمعاً وإفراد ضميره جائز باعتبار إرادة الجمع أو الفوج أو الفريق أو نظراً إلى أن صورته صورة المفرد، وقد جاء أفراده في قوله تعالى: { { وَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] وجمعه في قوله سبحانه { { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } [التوبة: 69] والمشهور جواز استعمال { ٱلَّذِى } جمعاً مطلقاً. واشترط ابن مالك في «التسهيل» أن يراد به الجنس لا جمع مخصوص فإن أريد الخصوص قصر على الضرورة. هذا ولا يخفى أن إرادة الجمع هنا لا تخلو عن بعد، والذي اختاره إرادة الواحد وأن ذلك الواحد هو عدو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ابن أبـي، وقد روى ذلك الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عتبة وكلهم سمع عائشة تقول { ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ } عبد الله بن أبـي، وقد تظافرت روايات كثيرة على ذلك، والذاهبون إليه من المفسرين أكثر من الذاهبين منهم إلى غيره.

ومن الإفك الناشىء من النصب قول هشام بن عبد الملك عليه من الله تعالى ما يستحق حين سئل الزهري عن { ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ } فقال له: هو ابن أبـي كذبت هو علي ـ يعني به أمير المؤمنين علي بن أبـي طالب كرم الله تعالى وجهه ـ وقد روى ذلك عن هشام البخاري والطبراني وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل»، ولا بدع من أموي الافتراء على أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه. وأنت تعلم أن قصارى ما روي عن الأمير رضي الله تعالى عنه أنه قال لأخيه وابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشاره يا رسول الله لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك. وفي رواية أنه قال: يا رسول الله قد قال الناس وقد حل لك طلاقها، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه ضرب بريرة وقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك شيء مما يصلح مستنداً لذلك الأموي الناصبـي.

وجل غرض الأمير مما ذكر أن يسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو فيه من الغم، غاية ما في الباب أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسامة وهو أمر غير متعين، ومن دقق النظر عرف مغزى الأمير كرم الله تعالى وجهه وأنه بعيد عما يزعمه النواصب بعد ما بين المشرق والمغرب فليتدبر.