التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٢٧
-النور

روح المعاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الخ. وسبب النزول على ما أخرج الفريابـي وغيره من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الخ. وإضافة البيوت إلى ضمير المخاطبين لامية اختصاصية، والمراد عند بعض الاختصاص الملكي، ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضاً منهيان عن الدخول بغير إذن. وقال بعضهم: المراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها لأن كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فيحمل ذلك على الاختصاص المذكور فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة. وقرىء { بيوتاً غير بيوتكم } بكسر الباء لأجل الياء.

{ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ } أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها، وتفسيره بذلك أخرجه ابن أبـي حاتم وابن الأنباري في «المصاحف» وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ويخالفه ما روى الحاكم وصححه والضياء في «المختارة» والبيهقي في «شعب الإيمان» وناس آخرون عنه أنه قال في { حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ } أخطأ الكاتب وإنما هي { حَتَّىٰ تستأذنوا } لكن قال أبو حيان: من روى عن ابن عباس إنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس برىء من ذلك القول انتهى.

وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن للخبر المذكور طرق كثيرة، وكتاب الأحاديث «المختارة» للضياء كتاب معتبر، فقد قال السخاوي في «فتح المغيث» في تقسيم أهل المسانيد: ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في «مختارته»، والسيوطي يعد ما عد في ديباجة «جمع الجوامع» «الكتب الخمسة» وهي «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» و «صحيح ابن حبان» و «المستدرك» و «المختارة» للضياء قال: وجميع ما في «الكتب الخمسة» صحيح. ونقل الحافظ ابن رجب في «طبقات الحنابلة» عن بعض الأئمة أنه قال: كتاب «المختارة» خير من «صحيح الحاكم» فوجود هذا الخبر هناك مع ما ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان، وابن الأنباري أجاب عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر القرآن المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وسيأتي في تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى بعضها أيضاً ـ بأن الروايات ضعيفة ومعارضة بروايات / أخر عن ابن عباس أيضاً وغيره وهذا دون طعن أبـي حيان وأجاب ابن اشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في الاختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي الله تعالى عنه لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة لا أن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن. واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال: هو أولى وأقعد من جواب ابن الأنباري، ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه، وأيضاً ظن ابن عباس أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على خلافه مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة بعيد، وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في «مختارته» ويشجع على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل.

واستعمال الاستئناس بمعنى الاستئذان بناءً على أنه استفعال من آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم فالاستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو لا؟. وقيل الاستئناس خلاف الاستيحاش فهو من الأنس بالضم خلاف الوحشة. والمراد به المأذونية فكأنه قيل: حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس، وهو في ذلك كناية أو مجاز، وقيل: الاستئناس من الإنس بالكسر بمعنى الناس أي حتى تطلبوا معرفة من في البيوت من الإنس. وضعف بأن فيه اشتقاقاً من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا إذن. ومن الناس من رجحه بمناسبته لقوله تعالى: { { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } [النور: 28] ولا يكافىء التضعيف بما سمعت.

وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم ولا يخفى ما فيه. وقيل: المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت، والمراد حتى تعلموهم على أتم وجه، ويرشد إلى ذلك ما روي عن أبـي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال: "يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت" وما أخرجه ابن المنذ وجماعة عن مجاهد أنه قال: تستأنسوا تنحنحوا وتنخموا، وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه، والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى، وفي دلالة ما ذكر من تفسير الاستئناس في الخبر على ما سبق له بحث سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

{ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا } أي الساكنين فيها. وظاهر الآية أن الاستئذان قبل التسليم وبه قال بعضهم. وقال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السلام قبل الكلام" وابن أبـي شيبة والبخاري في «الأدب المفرد» عن أبـي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم، وأخرج ابن أبـي شيبة وابن وهب في كتاب «المجالس» عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبـي إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فجئته فقلت: أألج؟ فقال: ادخل فلما دخلت قال: مرحباً يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل: السلام عليكم فإذا قيل: وعليك فقل: / أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل. وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في «التمهيد» عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله تعالى عنه على النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ واختار الماوردي التفصيل وهو أنه إن وقعت عين المستأذن على من في البيت قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، والظاهر أن الاستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحاً والمأثور المشهور في ذلك أأدخل؟ كما سمعت، وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقاً وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل البيت بالجائي فإن في إيذانهم دلالة ما على طلب الإذن منهم، وحملوا ما تقدم من حديث أبـي أيوب وكلام مجاهد على ذلك.

وهو على ما روي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرة الواحدة على ما يقتضيه ظاهر الآية وأخرج البيهقي في «الشعب» وابن أبـي حاتم عن قتادة أنه قال: كان يقال الاستئذان ثلاثاً فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع، أما الأولى: فيسمع الحي، وأما الثانية: فيأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا ردوا. وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث حديث مرفوع أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبـي سعيد الخدري. وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن من في البيت لم يسمع.

وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم، وقد أخرج مالك في «الموطأ» عن عطاء بن يسار "أن رجلاً قال للنبـي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا قال: فاستأذن عليها" .

وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، وهو أيضاً على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع للنساء إذا أردن دخول بيوت غير بيوتهن. فقد أخرج ابن أبـي حاتم عن أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: لا فقال واحد: السلام عليكم أندخل؟ قالت: ادخلوا ثم قالت: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الخ؛ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب، ووجه مشروعية الاستئذان لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال لا يحبون اطلاع النساء عليه كما لا يحبون اطلاع الرجال. وصح من حديث أخرجه الشيخان وغيرهما "إنما جعل الاستئذان من أجل النظر" ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الاستئذان، وقد أخرج الطبراني عن أبـي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يشهد أني رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج أبو داود والبخاري في «الأدب المفرد» عن عبد الله بن بشر إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور فاستقبال الباب ربما يفضي إلى النظر.

وظاهر الآية أيضاً مشروعية الاستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول، ووجهها كراهة اطلاعه بواسطة السمع على ما لا يحب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام مثلاً. وفي «الكشاف» إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم / ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول بذلك إلى القول بأن قوله عليه الصلاة والسلام «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» خارج مخرج الغالب. وجىء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجىء إنما لذلك فلا تغفل.

ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم. هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم { حَتَّىٰ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا وتستأذنوا }.

{ ذٰلِكُمْ } إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم المفهوم من الكلام، وقيل: إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيا بهما أي الاستئذان والتسليم { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول: حييتم صباحاً حييتم مساءً فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف، وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة الناس اليوم في قولهم: صباح الخير ومساء الخير، ولعل الأولى أن يقال: إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل. وجوز أن يكون { خَيْرٌ } صفة فلا تقدير.

وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه.