التفاسير

< >
عرض

وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٣١
-النور

روح المعاني

{ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ } فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، كالعورات من الرجال والنساء وهي ما بين السرة والركبة، وفي «الزواجر» لابن حجر المكي كما يحرم نظر الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض «كتب الأصحاب» إن كان نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة بشهوة حرم وإن بدونها لا يحرم. نعم غضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن، فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في «سننه» عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه الصلاة والسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه فقلت: يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبـي مطلقاً، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة إلى المرأة ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى.

{ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق أو من الإبداء أو مما يعم ذلك والإبداء { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي ما يتزين به من الحلى ونحوه { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط. وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استثني في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع - بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في حله - كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر ثابت القدم في الحرمة شاهداً على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله تعالى في الكشف عنها كذا في «الكشاف»، وهو على ما قال الطيبـي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم: فلان طاهر الجيب طاهر الذيل.

وقال صاحب «الفرائد»: هو من باب إطلاق اسم الحال على المحل فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص بدلالته وهي أقوى، وفيه بحث. وقيل: الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن. وقال ابن المنير: الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله عز وجل: { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، وأيضاً لو كان المراد من الزينة موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة، وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبـي حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة / مطلقاً فلا يحرم النظر إليها، وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسماء بنت أبـي بكر دخلت على النبـي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبـي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } رقعة الوجه وباطن الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات.

ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في «الزواجر» أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة، وفي «المنهاج وشرحه» لابن حجر في باب شروط الصلاة: عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة، ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب يجمله انتهى.

وذكر في «الزواجر» حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضاً بل قال: حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو من يدها، وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة وليس بمعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلاً على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقاً في غاية البعد فتأمّل.

واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل: بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كأن كشفته الريح مثلاً فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروى الطبراني والحاكم وصححه وابن المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب، وفي رواية الاقتصار على الثياب وعليها اقتصر أيضاً الإمام أحمد. وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى: { { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31] على ما في «البحر»، وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط والقلادة. وأخرج ابن أبـي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر، وعن الحسن أنه الخاتم والسوار، وروي غير ذلك، ولا يخفى أن بعض الأخبار ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في حملها على مواقعها، وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس، والمراد في الآية النهي عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف، وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة، قال في «البحر»: والأقرب دخولها / في الزينة وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة.

{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ } إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها، والخمر جمع خمار ويجمع في القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر، والجيوب جمع جيب وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد، وأصله على ما قيل من الجيب بمعنى القطع؛ وفي «الصحاح» تقول: جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه، قال الراجز:

باتت تجيب أدعج الظلام جيب البيطر مدرع الهمام

وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة، وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطأ بحسب المعنى. والمراد من الآية كما روي ابن أبـي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهنّ وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رؤوسهن بالخمر ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض صدورهن، وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى امتثال ما فيها فشققن مروطهن فاختمرن بها تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله تعالى من كتابه، وعدى يضرب بعلى على ما قال أبو حيان لتضمينه معنى الوضع والإلقاء، وقيل معنى الشد، وظاهر كلام الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين. وقرأ عباس عن أبـي عمرو { وليضربن } بكسر اللام وطلحة { بخمرهن } بسكون الميم، وقرأ غير واحد من السبعة { جيوبهن } بكسر الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا يجمع على فعول في الصحيح والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء، وزعم الزجاج أنها لغة رديئة.

{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور { إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } أي أزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة والمأمورات نساؤهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في «إِرشاد العقل السليم». وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم، وقيل: إنه خلاف الأولى وهو على ما قال الخفاجي: مذهب الحنفية وتفصيله في «الهداية» وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه تقديم (بعولتهن).

{ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوٰتِهِنَّ } لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وهذا الحكم ليس خالصاً بالآباء الأقربين بل آباء الآباء وإن علوا كذلك ومثلهم آباء الأمهات وكذا ليس خاصاً بالأبناء والبنين الصلبيين بل يعمهم وأبناء الأبناء وبني البنين وإن سفلوا، والمراد بالإخوان ما يشمل الأعيان وهم الأخوة لأب واحد وأم واحدة وبني العلات وهم أولاد الرجل من نسوة شتى والأخياف وهم أولاد المرأة من آباء شتى ونظير ذلك يقال في الأخوات، واستعمل { بَنِي } معهم دون أبناء لأنه أوفق بالعموم وأكثر استعمالاً في الجماعة ينتمون إلى شخص مع عدم اتحاد صنف قرابتهم فيما بينهم ألا ترى أنك كثيراً ما تسمع بني آدم وبني تميم وقلما تسمع أبناء آدم وأبناء تميم وفيما نحن فيه قد يجتمع للمرأة ابن أخ شقيق وابن أخ لأب وابن أخ لأم بل قد يجتمع لها أبناء أخ شقيق أو إخوة أشقاء أعيان وبنو علات وأبناء أخ / أو إخوة لأب وأبناء أخ أو إخوة لأم كذلك ويتأتى مثل ذلك في ابن الأخت لكن لا يتصور هنا بنو العلات كما لا يتصور في أبناء الأخ الأخياف والاجتماع في أبنائهن وأبناء بعولتهن وإن اتفق لكنه ليس بتلك المثابة. وقيل اختير في الأخيرين { بَنِي } لأنه لو جيء بأبناء تلاقت همزتان إحداهما همزة أبناء والثانية همزة إخوان أو أخوات وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال إذ للسائل أن يقول بعد: لم اختير في الأولين { أَبْنَاء } دون بني ويحتاج إلى نحو أن يقال اختير ذلك لأنه أوفق بآباء، وقيل اختير { أَبْنَاء } في الأولين لهذا، واختير بني في { بَنِى أَخَوٰتِهِنَّ } ليكون المضاف والمضاف إليه من نوع واحد، وفي بني إخوانهن للمشاكلة وفيه ما فيه.

ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ، وقيل لم يذكرهم سبحانه لما أن الأحوط أن يستترن عنهم حذاراً من أن يصفوهن لأبنائهم فيؤدي ذلك إلى نظر الأبناء إليهن. وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبـي شيبة عن الشعبـي. وفيه من الدلالة على وجوب التستر من الأجانب ما فيه. وضعف بأنه يجري في آباء البعولة إذ لو رأوا زينتهن لربما وصفوهن لأبنائهم وهم ليسوا محارم فيؤدي إلى نظرهم إليهن لا سيما إذا كن خليات، وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء فإنهم عند الناس بمنزلتهم لا سيما الأعمام وكثيراً ما يطلق الأب على العم، ومنه قوله تعالى: { { وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لأِبِيهِ ءازَرَ } [الأنعام: 74] ثم أن المحرمية المبيحة للإبداء كما تكون من جهة النسب تكون من جهة الرضاع فيجوز أن يبدين زينتهن لآبائهن وأبنائهن مثلاً من الرضاع.

{ أَوْ نِسَائِهِنَّ } المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب، ولا فرق في ذلك بين الذمية وغيرها وإلى هذا ذهب أكثر السلف. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في «سننه» عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبـي عبيدة رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وفي «روضة النووي» في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان أصحهما عند الغزالي أنها كالمسلمة وأصحهما عند البغوي المنع، وفي «المنهاج» له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة، ومقتضاه أنها معها كالأجنبـي واعتمده جمع من الشافعية، وقال ابن حجر: الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها ومحرمها ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال الإمام الرازي: ((المذهب أنها كالمسلمة، والمراد بنسائهن جميع النساء، وقول السلف محمول على الاستحباب)) وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.

{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ } أي من الإماء ولو كوافر وأما العبيد فهم كالأجانب، وهذا مذهب أبـي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأحد قولين في مذهب الشافعي عليه الرحمة وصححه كثير من الشافعية والقول الآخر أنهم كالمحارم وصحح أيضاً، ففي «المنهاج وشرحه» لابن حجر: والأصح أن نظر العبد العدل - ولا يكفي العفة عن / الزنا فقط غير المشترك والمبعض وغير المكاتب كما في «الروضة» عن القاضي وأقره وإن أطالوا في رده - إلى سيدته المتصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضاً في الخلوة والسفر ا هـ بتلخيص، وإلى كون العبد كالأمة ذهب ابن المسيب ثم رجع عنه وقال: لا يغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور، وعلل بأنهم فحول ليسوا أزواجاً ولا محارم والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة كما في «الهداية».

وروي عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين أنهم قالوا: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن طاوس أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال: ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاماً يسيراً فأما رجل ذو لحية فلا، ومذهب عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما، وروي عن بعض أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون. وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها وانها قالت لذكوان: إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر، وعن مجاهد كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم.

وأخرج أحمد في «مسنده» وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة رضي الله تعالى عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبـي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك.

والذي يقتضيه ظاهر الآية عدم الفرق بين الذكر والأنثى لعموم (ما) ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة لقيل أو إمائهن فإنه أخصر ونص في المقصود، وإذا ضم الخبر المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق والتفصي عن ذلك صعب، وأحسن ما قيل في الجواب عن الخبر أن الغلام فيه كان صبياً إذ الغلام يختص حقيقة به فتأمل، وخرج بإضافة الملك إليهن عبد الزوج فهو والأجنبـي سواء قيل: وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ }.

{ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرّجَالِ } أي الذين يتبعون ليصيبوا من فضل الطعام غير أصحاب الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الطاعنون في السن الذين فنت شهواتهم والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم، وفي المجبوب وهو الذي قطع ذكره والخصي وهو من قطع خصاه خلاف واختير أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب وكان معاوية يرى جواز نظر الخصي ولا يعتد برأيه وهو على ما قيل أول من اتخذ الخصيان، وعن ميسون الكلابية أن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله تعالى، وليس له أن يستدل بما روي أن المقوقس أهدى للنبـي صلى الله عليه وسلم خصياً فقبله إذ لا دلالة فيه على جواز إدخاله على النساء.

وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن غير أولي الإربة الأبله الذي لا يعرف أمر النساء وروي ذلك عن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وعن ابن جبير أنه المعتوه ومثله المجنون كما قال ابن عطية. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه المخنث الذي لا يقوم زبه لكن أخرج مسلم وأبو دواد والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج / النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي عليه الصلاة والسلام يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أرى هذا يعرف ما هٰهنا لا يدخل عليكن فحجبوه، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم، ولعل الأولى حمل غير أولي الإربة على الذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئاً من أمورهن بحيث لا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ولا يصفوهن للأجانب ولا أرى الاكتفاء في غير أولي الإربة بعدم الحاجة إلى النساء إذ لا تنتفي به مفسدة الإبداء بالكلية كما لا يخفى. ولعل في الخبر نوع إيماء إلى هذا؛ وفي «المنهاج وشرحه» لابن حجر عليه الرحمة، والأصح أن نظر الممسوح ذكره كله وأنثياه بشرط أن لا يبقى فيه ميل للنساء أصلاً وإسلامه في المسلمة ولو أجنبياً لأجنبية متصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضاً في الخلوة والسفر ويعلم منه أن التمثيل بالممسوح فيما سبق ليس على إطلاقه، وأما الشيخ الهم والمخنث فهما عند الشافعية في النظر إلى الأجنبيات ليسا كالممسوح، وصححوا أيضاً أن المجنون يجب الاحتجاب منه فلا تغفل.

وجر { غَيْرِ } قيل على البدلية لا الوصفية لاحتياجها إلى تكلف جعل التابعين لعدم تعينهم كالنكرة كما قاله الزجاج أو جعل { غَيْرِ } متعرفاً بالإضافة هنا مثلها في الفاتحة [7] وفيه نظر. وقرأ ابن عامر وأبو بكر { غير } بالنصب على الحال والاستثناء.

{ أَوِ ٱلطّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرٰتِ ٱلنّسَاء } أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها على أن { لَمْ يَظْهَرُواْ } الخ من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه فجعل كناية عن ذلك أو الذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع على أنه من ظهر على فلان إذا قوي عليه ومنه قوله تعالى: { { فَأَصْبَحُواْ ظَـٰهِرِينَ } [الصف: 14] ويشمل الطفل الموصوف بالصفة المذكورة بهذا المعنى المراهق الذي لم يظهر منه تشوق للنساء، وقد ذكر بعض أئمة الشافعية أنه كالبالغ فيلزم الاحتجاب منه على الأصح كالمراهق الذي ظهر منه ذلك، ويشمل أيضاً من دون المراهق لكنه بحيث يحكي ما يراه على وجهه. وذكروا في غير المراهق أنه إن كان بهذه الحيثية فكالمحرم وإلا فكالعدم فيباح بحضوره ما يباح في الخلوة فلا تغفل.

والظاهر أن { ٱلطّفْلِ } عطف على قوله تعالى: { لِبُعُولَتِهِنَّ } أو على ما بعده من نظائره لا على { ٱلرّجَالِ } وكلام أبـي حيان ظاهر في أنه عطف عليه وليس بشيء، ثم هو مفرد محلى بأل الجنسية فيعم ولهذا كما قال في «البحر»: وصف بالجمع فكأنه قيل: أو الأطفال كما هو المروي عن مصحف حفصة، ومثل ذلك قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، وقيل هو مفرد وضع موضع الجمع، ونحوه قوله تعالى: { { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [غافر: 67]. وتعقب بأن وضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وما هنا عنده من باب المفرد المعرف بلام الجنس وهو يعم بدليل صحة الاستثناء منه، والآية المذكورة يحتمل أن تكون عنده على معنى ثم يخرج كل واحد منكم طفلاً كما قيل في قوله تعالى: { { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ } [يوسف: 31] أنه على معنى واعتدت لكل واحدة منهن متكأ فلا يتعين كون { طِفْلاً } فيها مما لا ينقاس عنده، وقال الراغب: إن { طِفْلاً } يقع على الجمع كما يقع على المفرد ونص على / ذلك الجوهري، وكذا قال بعض النحاة: إنه في الأصل مصدر فيقع على القليل والكثير والأمر على هذا ظاهر جداً.

والعورات جمع عورة وهي في الأصل ما يحترز من الاطلاع عليه وغلبت في سوأة الرجل والمرأة؛ ولغة أكثر العرب تسكين الواو في الجمع وهي قراءة الجمهور. وروي عن ابن عامر أنه قرأ { عورات } بفتح الواو، والمشهور أن تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب «شواذ القراآت» أن ابن أبـي إسحٰق والأعمش قرآ { عورات } بالفتح ثم قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن، وإنما جعله لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون: روضات وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان، وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو؛ وأنشدني بعضهم:

أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح

{ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ } أي ما يسترنه عن الرؤية { مِن زِينَتِهِنَّ } أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيعلم أنهن ذوات خلاخل فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن ويوهم أن لهن ميلاً إليهم. أخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالاً من فضة واتخذت جزعاً فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله تعالى { وَلاَ يَضْرِبْنَ } الخ، والنساء اليوم على جعل الخرز ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هوناً صوت، ولهن من أنواع الحلي غير الخلخال ما يصوت عند المشيء أيضاً لا سيما إذا كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء، ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة الحلي أكثر من رؤيته. وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى. وربما يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن. والمذكور في معتبرات «كتب الشافعية» وإليه أميل أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة، وكذا إن التذ به كما بحثه الزركشي. وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام: صرح في «النوازل» أن نغمة المرأة عورة ولذا قال النبـي صلى الله عليه وسلم: "التكبير للرجال والتصفيق للنساء" فلا يحسن أن يسمعه الرجل اهـ.

ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك، ومثله ما عمت به البلوى أيضاً من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن وعدم مبالاة بعولتهن بذلك وكثيراً ما يأمرونهن به. وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أياماً إلى أن يعطوها شيئاً من الحلي ونحوه فتبدو لهم ولا تحتجب منهم بعد وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

{ وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً } تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقية بأن يكون سبحانه وتعالى الآمر / بهما لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي لا سيما في الكف عن الشهوات.

وقد أخرج أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» ومسلم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الأغر رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» والمراد بالتوبة على هذا التوبة عما في الحال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد التوبة عما كانوا يفعلونه قبل من إرسال النظر وغير ذلك وهو وإن جب بالإسلام لكنه يلزم الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقد قالوا: إن هذا يلزم كل تائب عن خطيئة إذا تذكرها، ومنه يعلم أن ما يفعله كثير ممن يزعمون التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبجح والاستلذاذ دليل عن عدم صدق توبتهم.

وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى: { أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتماً، وفي هذا دليل على أن المعاصي لا تخرج عن الإيمان. وقرأ ابن عامر { أَيه ٱلْمُؤْمِنُونَ } بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها، وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق بن مسلمة. ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها. ووقف أبو عمرو والكسائي ويعقوب ـ كما في «النشر» ـ بالألف على خلاف الرسم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي لكي تفوزوا بذلك بسعادة الدارين أو مرجواً فلا حكم.