التفاسير

< >
عرض

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
-النور

روح المعاني

وقوله تعالى: { أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل: أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام مع ظهور حقيتها أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول: هجر الحبيب مثلاً فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضاً أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جداً وهو كثير في المحاورات إلا أن الاستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية.

وقوله تعالى: { بَلْ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الاستفهام كأنه قيل: ليس شيء ما ذكر سبباً لذلك الإعراض، أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سبباً له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة والسلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضاً، وأما الثالث فلانتفائه رأساً حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلاً لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الانقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق عليهم، فمناط النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين هو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما، وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعاً، وإذا خص الارتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله عليه وسلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة والسلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة، و { أَمْ } عليه متصلة وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاري حيث جعلا ما تقدم تقسيماً لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخير من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث إنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق لهم على الغير، والثاني جعله إضراباً عن الأخيرين منها لتحقيق القسم الأول، وقال: وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً أو متوقعاً وفسر الارتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم ثم قال: وكلاهما باطلان فتعين الأول. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة والسلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف.

وقال العلامة الطيبـي: الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي، كأنه قيل: دع التقسيم / فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل، ونقل عن الإمام ما يدل على أن (أم) منقطعة قال: أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف، ووجه الإضراب أن كلاً مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة، واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعي في هذه المادة خصوصاً، وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الاستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله:

ألست من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

وقوله:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولاً، وتقديم { عَلَيْهِمْ } على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة والسلام هو حكم الله تعالى، ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل.