التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٨
-النور

روح المعاني

{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الخ رجوع عند الأكثرين إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وفي «التحقيق» ويحتمل أن يقال: إنه مما يطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، وتخصيصه بالذكر لأن دخوله في الطاعة باعتبار أنه من الآداب أبعد من غيره. والخطاب إما للرجال خاصة والنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين تغليباً، واعترض الأول بأن الآية نزلت بسبب النساء، فقد روي أن أسماء بنت أبـي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت، وقد ذكر في «الإتقان» أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي. وأجيب بأنه ما المانع من أن يعلم الحكم في السبب بطريق الدلالة والقياس الجلي ويكون ذلك في حكم الدخول، ونقل عن السبكي أنه ظني فيجوز إخراجه؛ وتمام الكلام في ذلك في «كتب الأصول».

ثم ما ذكر في سبب النزول ليس مجمعاً عليه، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله تعالى / عنه غلاماً من الأنصار يقال له مدلج وكان رضي الله تعالى عنه نائماً فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجداً، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله تعالى عنه للوحي. وأخرج ابن أبـي حاتم عن السدي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات فيغتسلوا ثم يخرجون إلى الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }.

ويعلم منه أن الأمر في قوله سبحانه: { لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ } وإن كان في الظاهر للمملوكين والصبيان لكنه في الحقيقة للمخاطبين فكأنهم أمروا أن يأمروا المذكورين بالاستئذان وبهذا ينحل ما قيل: كيف يأمر الله عز وجل من لم يبلغ الحلم بالاستئذان وهو تكليف ولا تكليف قبل البلوغ، وحاصله أن الله تعالى لم يأمره حقيقة وإنما أمر سبحانه الكبير أن يأمره بذلك كما أمره أن يأمره بالصلاة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين" وأمره بما ذكر ونحوه من باب التأديب والتعليم ولا إشكال فيه، وقيل: الأمر للبالغين من المذكورين على الحقيقة ولغيرهم على وجه التأديب، وقيل: هو للجميع على الحقيقة والتكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ فالمراد بالذين لم يبلغوا الحلم المميزون من الصغار وهو كما ترى.

واختلف في هذا الأمر فذهب بعض إلى أنه للوجوب، وذهب الجمهور إلى أنه للندب وعلى القولين هو محكم على الصحيح وسيأتي تمام الكلام في ذلك. والجمهور على عموم { ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ } في العبيد والإماء الكبار والصغار، وعن ابن عمر ومجاهد أنه خاص بالذكور كما هو ظاهر الصيغة وروي ذلك عن أبـي جعفر وأبـي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وقال السلمي: إنه خاص بالإناث وهو قول غريب لا يعول عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تخصيصه بالصغار وهو خلاف الظاهر جداً.

والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان ذكوراً وإناثاً على ما يقتضيه ما مر في سابقه عن الجمهور وخص بالمراهقين منهم، و { مّنكُمْ } لتخصيصهم بالأحرار ويشعر به المقابلة أيضاً. وفي «البحر» هو عام في الأطفال عبيداً كانوا أو أحراراً. وكني عن القصور عن درجة البلوغ بما ذكر لأن الاحتلام أقوى دلائله، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبـي فقد بلغ، واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة في المشهور: لا يكون بالغاً حتى يتم له ثماني عشرة سنة وكذا الجارية إذ لم تحتلم أو لم تحض أو لم تحبل لا تكون بالغة عنده حتى يتم لها سبع عشرة سنة، ودليله قوله تعالى: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [الأنعام: 152] وأشد الصبـي كما روي عن ابن عباس وتبعه القتيبـي ثماني عشرة سنة وهو أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقص في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وقال صاحباه والشافعي وأحمد: إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن الإمام رضي الله تعالى عنه أيضاً وعليه الفتوى.

ولهم أن العادة الفاشية أن لا يتأخر البلوغ فيهما عن هذه المدة وقيدت العادة بالفاشية لأنه قد يبلغ الغلام في اثنتي عشرة سنة وقد تبلغ الجارية في تسع سنين، واستدل بعضهم على ما تقدم بما روى ابن عمر رضي الله تعالى / عنهما أنه عرض على النبـي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه، واعترض أبو بكر الرازي على ذلك بأن أُحداً كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يصح ما ذكر في الخبر، وأيضاً لا دلالة فيه على المدعي لأن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ فقد لا يؤذن البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته وقدرته على حمل السلاح. ولعل عدم إجازته عليه الصلاة والسلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أولاً إنما كان لضعفه ويشعر بذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن.

ومما تفرد به الشافعي رضي الله تعالى عنه على ما قيل جعل الإنبات دليلاً على البلوغ واحتج له بما روى عطية القرظي أن النبـي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال: فنظروا إلي فلم أكن قد أنبت فاستبقاني صلى الله عليه وسلم؛ وتعقبه أبو بكر الرازي بأن هذا الخبر لا يجوز إثبات الشرع بمثله فإن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر، وأيضاً هو مختلف الألفاظ ففي بعض رواية أن النبـي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من جرت عليه المواسي، وأيضاً يجوز أن يكون الأمر بقتل من أنبت ليس لأنه بالغ بل لأنه قوي فإن الإنبات يدل على القوة البدنية، وانتصر للشافعي بأن الاحتمال مردود بما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن غلام فقال: هل اخضر إزاره فإنه يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم المشهور عن الشافعي عليه الرحمة جعل ذلك دليلاً على البلوغ في حق أطفال الكفار، وتكلف الشافعية في الانتصار له ورد التشنيع عليه بما لا يخفى ما فيه على من راجعه.

ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود يقتص له ويقتص منه. وعن ابن سيرين عن أنس قال: أُتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه، وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب:

ما زال مذ عقدت يداه إزاره وسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني كتائب من كتائب تلتقي بالطعن يوم تجاول وغوار

وأكثر الفقهاء لا يقولون به لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلاً وفوق البلوغ ويكون قصيراً فلا عبرة بذلك. ولعل الأخبار السابقة لا تصح. وما نقل عن الفرزدق لا يتعين إرادة البلوغ فيه، ومن الناس من قال: إنه أراد بخمسة الأشبار القبر كما قال الآخر:

عجباً لأربع أذرع في خمسة في جوفه جبل أشم كبير

هذا وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية { ٱلْحلم } بسكون اللام وهي لغة تميم، وذكر الراغب أن الحلم بالضم والحلم السكون كلاهما مصدر حلم في نومه بكذا بالفتح إذا رآه في المنام يحلم بالضم ولم يخص ذلك بلغة دون أخرى، وعن بعضهم عد حلماً بالفتح مصدراً لذلك أيضاً، وفي «الصحاح» الحلم بالضم ما يراه النائم تقول منه: حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضاً فيتعدى بالباء وبنفسه قال:

فحلمتها وبنور فيدة دونها لا يبعدن خيالها المحلوم

والحلم بكسر الحاء الأناة تقول منه: حلم الرجل بالضم إذا صار حليماً، وفي «القاموس» الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ثم قال: وحلم به وعنه رأى له رؤيا أو رآه في النوم والحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم / والاسم الحلم كعتق والحلم بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم اهـ، والظاهر أن ما نحن فيه بمعنى الجماع في النوم وهو الاحتلام المعروف ووجه الكناية السابقة عليه ظاهر. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ وسمي الحلم لكونه جديراً صاحبه بالحلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب وفي النفس منه شيء.

{ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } أي ثلاث أوقات في اليوم والليلة، والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار طلب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها فنصب { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } على الظرفية للاستئذان وهو الذي ذهب إليه الجمهور ويدل على ما ذكر قوله تعالى: { مّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ } الخ فإن الظاهر أنه في محل النصب أو الجر كما قيل إنه بدل من { ثَلَـٰثٍ } أو من { مَرَّاتٍ } بدل مفصل من مجمل. وجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل الخ وهو أيضاً يدل على ما ذكرنا، واختار في «البحر» أن المعنى ثلاث استئذانات كما هو الظاهر فإنك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام "الاستئذان ثلاث" ، وعليه يكون { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } مفعولاً مطلقاً للاستئذان و { مِن قَبْلُ } الخ ظرف له. وشرع الاستئذان من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة وكل ذلك مظنة انكشاف العورة. وأيضاً كثيراً ما يجنب الشخص ليلاً فيغتسل في ذلك الوقت ويستحى من الاطلاع عليه في تلك الحالة ولو مستور العورة.

{ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ } أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتحطونها عنكم { مّنَ ٱلظَّهِيرَةِ } بيان للحين، والظهيرة كما قال الراغب وقت الظهر، وفي «القاموس» هي حد انتصاف النهار أو إنما ذلك في القيظ. وجوز أن تكون { مِنْ } أجلية والكلام على حذف مضاف أي وحين تضعون ثيابكم من أجل حر الظهيرة، وفسر بعضهم الظهيرة بشدة الحر عند انتصاف النهار فلا حاجة إلى الحذف؛ و { حِينٍ } عطف على { مِن قَبْلُ } وهو ظاهر على تقدير كونه في محل نصب، وأما على التقديرين الآخرين فيلتزم القول ببناء حين على الفتح وإن أضيف إلى مضارع كما قيل في قوله تعالى: { { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة:119] على قراءة فتح ميم يوم. والتصريح بمدار الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون ما قبل وما بعد لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبـىء عنه إيراد الحين مضافاً إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق المدار فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به.

{ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَاء } ضرورة أنه وقت التجرد عن لباس اليقظة والالتحاف بثياب النوم وكثيراً ما يتعاطى فيه مقدمات الجماع وإن كان الأفضل تأخيره لمن لا يغتسل على الفور إلى آخر الليل، ويعلم مما ذكر في حيز بيان حكمة مشروعية الاستئذان في الوقت الأول والوقت الأخير أن المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين ليس مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين صلاة الفجر وصلاة العشاء بل المراد بهما طرفا ذلك الوقت الممتد المتصلان اتصالاً عادياً بالصلاتين المذكورتين وعدم التعرض للأمر بالاستئذان في الباقي / من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالاستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى، وإما لندرة الوارد فيه جداً كما قيل، وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى.

وقوله تعالى: { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه: { لَكُمْ } متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين، وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب: من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة، وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة، والكلام على حذف مضاف أي هن ثلاث أوقات يختل فيها التستر عادة، وقدر أبو البقاء المضاف قبل { ثَلَـٰثٍ } فقال: أي هي أوقات ثلاث عورات أولاً حذف فيه، وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات. والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الاستئذان في تلك الأوقات. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي { ثلـٰث } بالنصب على أنه بدل من { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } وجوز أبو البقاء كونه بدلاً من الأوقات المذكورة، وكونه منصوباً بإضمار أعني. وقرأ الأعمش { عورٰت } بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم.

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ } أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم { جُنَاحٌ } أي في الدخول بغير استئذان { بَعْدَهُنَّ } أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن، وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف كذا في «إرشاد العقل السليم»، وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية، ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر. وكان الظاهر أن يقال: ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهراً فيما تقدم بالاستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير، وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر هٰهنا أن يقال: ليس عليكم جناح بعدهن مقتصراً عليه، ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الاستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفى الجناح عن المأمورين به فيها ظاهراً وحقيقة.

والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي، واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي. وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا، وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذٍ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة. / ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى. والتزم في الجواب كون المراد بالجناح الإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى والأخلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأبـى المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعون منه. ولا يأبـى ذلك تقدم الأمر السابق ولا ما في «الإرشاد» من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق.

وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا } [النور: 27] منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاث ودل ذلك على خلافه ومن ذهب إليه قال: إنها في الصبيان ومماليك المدخول عليه وآية الاستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ.

ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالاستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناءً على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الاستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها.

هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياره وعليه اقتصر أبو البقاء وهو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن، وعليه تقل مؤنة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جداً. والجمهور على ما سمعت أولاً في معناها، والظاهر أن الجملة على القراءتين السابقتين في (ثلاث) مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها، وفي «الكشاف» أنها إذا رفع { ثَلَـٰثٍ } كانت في محل رفع على الوصف والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلاماً مقرراً للاستئذان في تلك الأحوال خاصة. وقال في ذلك صاحب «التقريب»: إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } نصباً وهو بدل من { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان. ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني. أحدها: اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذ لم يعلم إلا من هذا. والثاني: جعل الحكم المقصود وصفاً للظرف فيصير غير مقصود. والثالث: أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف. وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الاستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى.

وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه. فإن قيل: هو مشترك الإلزام قيل: قد تقدم في قوله تعالى: { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبـي: إن المقصود الأولي الاستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها / تابع له لقول المحدث رضي الله تعالى عنه لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبـي صلى الله عليه وسلم وقد نزلت الآية. وفي «الكشف» أنه جىء به أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني { لَيْسَ عَلَيْكُمْ } الخ على رفع { ثَلَـٰثٍ } مؤكداً للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافاً وأما إذا جعل وصفاً فيفوت هذا المعنى وهذا أيضاً من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل.

وقوله تعالى: { طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ } خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون. والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاث وغيرها بأنها عورات. وقوله عز وجل: { بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } جوز أن يكون مبتدأ وخبراً ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض، وجوز أن يكون معمولاً لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض. وقال ابن عطية: { بَعْضُكُمْ } بدل من { طَوَّافُونَ }، وتعقبه في «البحر» ((بأنه إن أراد أنه بدل من { طَوَّافُونَ } نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن { عَلَيْكُمْ } يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان)) وقيل: يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى. وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلاً من التي قبلها وكونها مبينة مؤكدة، ولا يخفى عليك ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضاً من المخاطبين وبذلك يقوى أمر العلية. وقرأ ابن أبـي عبلة { طوافين } بالنصب على الحال من ضمير (عليهم).

{ كَذٰلِكَ } إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة: 143] وفي غيره أيضاً أي مثل ذلك التبيين { يُبيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ } الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة، وقيل: يبين علل الأحكام. وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر هٰهنا. { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم { حَكِيمٌ } في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشاً ومعاداً.