التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً
١٠
-الفرقان

روح المعاني

أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئاً خيراً لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور كذا في «الكشاف»، وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا ولا يخفى ما فيه، وقيل: المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة، ودخلت { إن } على فعل المشيئة تنبيهاً على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد على الله عز وجل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم، ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى: { { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ } [الفرقان: 11] كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.

والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لما أنه مطلوب لذاته بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضاً أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز، وعدم التعرض لجواب الاقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل.

وفي «إرشاد العقل السليم» أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلى الله عليه وسلم جنة يأكل منها { وَجَنَّـٰتٍ } بدل من { خَيْرًا } محقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقاً عن قيد التعدد وجريان الأنهار، وتعلق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح، وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكاً عظيماً انتهى. وهذ الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما ذكر أولاً استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد، وحكى عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال: إنه بعيد، وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره صاحب «الإرشاد».

والظاهر أن { يَجْعَلْ } مجزوم فيكون معطوفاً على محل الجزاء الذي هو جعل وهو جزاء أيضاً وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء، فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظاً كما أنهما مستقبلتان معنى، والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة. / وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظاً في { إِن شَاء جَعَلَ } الخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه. ولما لم يقترحوا ما هو جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر، وقيل: كان الظاهر نعد التعبير أولاً في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضاً لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان، ثم إن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه: { جَنَّـٰتُ } وكان ما تقدم عن «الكشاف» بيان لحاصل المعنى بمعونة السياق. وجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام { لَكَ } لكن إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبـي عمرو، والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة والكسائي ونافع وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا إدغام وهي قراءة ابن عامر وابن كثير ومجاهد وحميد وأبـي بكر، والعطف على هذه القراءة واحتمال الإدغام عند ابن عطية على المعنى في { جَعَلَ } لأن جواب الشرط موضع استئناف ألا يرى أن الجملة من المبتدأ والخبر قد تقع موقع جواب الشرط.

وقال الزمخشري: هو معطوف على { جَعَلَ } لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقول زهير في مدح هرم بن سنان:

وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم

ومذهب سيبويه أن الجواب في مثل ذلك محذوف وأن المضارع المرفوع على نية التقديم، وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء. والتركيب عند الجمهور فصيح سائغ في النثر كالشعر، وحكى أبو حيان عن بعض أصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة إذ لم يجيء إلا في الشعر، وتمام الكلام في تحقيق المذاهب في محله.

وقال الحوفي وأبو البقاء: الرفع على الاستئناف قيل وهو استئناف نحوي، والكلام وعد له صلى الله عليه وسلم بجعل تلك القصور في الآخرة ولذا عدل عن الماضي إلى المضارع الدال على الاستقبال، وقيل: هو استئناف بياني كأن قائلاً يقول: كيف الحال في الآخرة؟ فقيل: يجعل لك فيها قصوراً، وجعل بعضهم على الاستئناف هذا الجعل في الدنيا أيضاً على معنى إن شاء جعل لك في الدنيا جنات ويجعل لك في تلك الجنات قصوراً إن تحققت الشرطية وهو كما ترى، وقيل: الرفع بالعطف على { تَجْرِي } صفة بتقدير ويجعل فيها أي الجنات، وليس بشيء. وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان { ويجعل } بالنصب على إضمار أن، ووجه على ما نقل عن السيرافي أن الشرط لما كان غير مجزوم أشبه الاستفهام، وقيل: لما كان غير واقع حال المشارطة أشبه النفي، وقد ذكر النصب بعده سيبويه، وقال إنه ضعيف، وقيل: الفعل مرفوع وفتح لامه اتباعاً للام { لَكَ } نظير ما قيل في قوله:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال

من أنه فتح راء غير اتباعاً لهمزة أن وهو أحد وجهين في البيت، ونظير الآية في هذه القراآت قول النابغة:

فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام

فإنه يروى في نأخذ الجزم والرفع والنصب.