التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
٧٧
-الفرقان

روح المعاني

{ قُلْ } أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أصلاً أي قل للناس مشافهاً لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر { مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى } أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم { لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ } أي عبادتكم له عز وجل حسبما مر تفصيله، فإن ما خلق له الإنسان معرفة الله تعالى وطاعته جل وعلا وإلا فهو والبهائم سواء فما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر، وأصل العبء الثقل وحقيقة قولهم: ما عبأت به ما اعتددت له من فوادح همي ومما يكون عبأ عليَّ كما تقول: ما اكترثت له أي ما أعتددت له من كوارثي ومما يهمني. وقال الزجاج: معناه أي وزن يكون لكم عنده تعالى لولا عبادتكم، ويجوز أن تكون (ما) نافية أي ليس يعبأ، وأياً ما كان فجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لولا دعاؤكم لما اعتد بكم، وهذا بيان لحال المؤمنين من المخاطبين.

وقوله سبحانه: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } بيان لحال الكفرة منهم، والمعنى إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين، فالفاء مثلها في قوله: فقد جئنا خراسانا والتكذيب مستعار للمخالفة، وقيل: المراد فقد قصرتم في العبادة على أنه من قولهم: كذب القتال إذا لم يبالغ فيه، والأول أولى وإن قيل: إن المراد من التقصير في العبادة تركها. وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير { فَقَدْ كَذَّبَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وهو على معنى كذب الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا إليه وهو الذي اختاره الزمخشري واستحسنه صاحب «الكشف»، واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش، والمعنى عليه عند بعض ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه أي لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم، وفيه معنى من قوله تعالى: { مَا خَلَقْتَ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] وقيل: المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أي لولا إرادة ذلك. وقيل: المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما / قال تعالى: { { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ } [النساء: 147]، وقيل: المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم إليه في الشدائد كما قال تعالى: { { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ } [العنكبوت: 65] وقال سبحانه: { فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام: 42]، وقيل: المعنى ما خلقكم سبحانه وله إليكم حاجة إلا أن تسألوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم، وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لا ينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى فقد خصص بهم في قوله تعالى: { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ }.

{ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي جزاء التكذيب أو أثره لازماً يحيق بكم حتى يكبكم في النار كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها فضمير { يَكُونَ } لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز، وإنما لم يصرح بذلك للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان. وقيل: الضمير للعذاب، وقد صرح به من قرأ { يَكُونُ ٱلْعَذَابُ لِزَاماً }، وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر، وروي عن أبـي ومجاهد وقتادة وأبـي مالك، ولعل إطلاقه على ذلك لأنه لوزم فيه بين القتلى { لِزَاماً }. وقرأ ابن جريج (تكون) بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة، وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السمال { لزاماً } بفتح اللام مصدر لزم يقال: لزم لزوماً ولزاماً كثبت ثبوتاً وثباتاً، ونقل ابن خالويه عن أبـي السمال أنه قرأ { لزام } على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة والله تعالى أعلم.

هذا ومن باب الإشارة: قيل في قوله تعالى: { { وَقَالُواْ مالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 7] إشارة قصور حال المنكرين على أولياء الله تعالى حيث شاركوهم في لوازم البشرية من الأكل والشرب ونحوهما وقالوا في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } [الفرقان: 20] إن وجه فتنته النظر إليه نفسه والغفلة فيه عن ربه سبحانه، ويشعر هذا بأن كل ما سوى الله تعالى فتنة من هذه الحيثية. وقال ابن عطاء في قوله تعالى: { { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [الفرقان: 23] أطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباءً منثوراً، وهذه الآية وإن كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباءً كما تضمنته، فقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» والخطيب في «المتفق والمفترق» عن سالم مولى أبـي حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جىء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباءً ثم قذفهم في النار، قال سالم: بأبـي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم قال: كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنئة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم" وذكر في قوله تعالى: { { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ } [الفرقان: 27] الآية أن حكمه عام في كل متحابين على معصية الله تعالى. وعن مالك بن دينار نقل الأحجار مع الأبرار خير من أكل الخبيص مع الفجار، وفي قوله تعالى: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 31] أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبـي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعدواته، وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء الله تعالى، ولذا قيل: إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، وفي قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ } [الفرقان: 34] إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين، وفي قوله تعالى: { أَرَءيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } [الفرقان: 43] إنه عام في كل من مال إلى هوى نفسه واتبعه فيما توجه إليه، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحثه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها، وقيل في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ } الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام { وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً } [الفرقان: 45] في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلاً بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد، وفي قوله تعالى: { ثُمَّ قَبَضْنَـٰهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [الفرقان: 46] إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير؛ وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود. وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل، وفي قوله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَا } إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى: { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } [فصلت: 53] وهذه مرتبة الصديقين. وقوله سبحانه: { ثُمَّ قَبَضْنَـٰهُ } كقوله تعالى: { { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] { أَلاَّ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [الشورى: 53] وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائماً لا يزول، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان، وفي قوله تعالى: { ثُمَّ قَبَضْنَـٰهُ } إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف { وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاساً } تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات { وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً } راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات { وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } [الفرقان: 47] تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم { وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ } أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب { بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } من التجليات والكشوف { وَأَنزَلْنَا } [الفرقان: 48] من سماء الكرم ماء حياة العرفان { لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي قلوباً ميتة { وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰماً } وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات { وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً } [الفرقان: 49] وهم الذين سكنوا إلى رياض الأنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية { وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ } أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم { لّيَذْكُرُواْ } به موطنهم الأصلي { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } [الفرقان: 50] بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها { وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } بحر الروح وبحر النفس { هَـٰذَا } وهو بحر الروح { عَذْبٌ فُرَاتٌ } من الصفات الحميدة الربانية، و { هَـٰذَا } وهو بحر النفس { مِلْحٌ أُجَاجٌ } من الصفات الذميمة الحيوانية { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [الفرقان: 53] فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة. وذكر أن البرزخ هو القلب، وقال ابن عطاء: تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب، وقيل: البحر العذب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لا حرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك / صارت مورد الخواص والعوام، والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لما أن الحقيقة صعبة المسالك لا يكاد يدرك ما فيها عقل السالك، والبرزخ إشارة إلى الطريقة فإنها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين { تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً } [الفرقان: 61] قيل: هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشترى المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء الله تعالى وجلاله جل شأنه. وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هوناً { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ } وهم أبناء الدنيا { قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63] أي سلامة من الله تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى الله تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم عمّا هم فيه { قَالُواْ سَلاَماً } سلام متاركة وتوديع { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [الفرقان: 64] لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب:

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامع

{ { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [الفرقان: 65] إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فإن المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل:

فليت سليمى في المنام ضجيعتي في جنة الفردوس أو في جهنم

{ { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [الفرقان: 67] إشارة إلى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لا يسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترون بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات الله تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ } برفع حوائجهم إلى الأغيار { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ } قتلها { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } أي إلا بسطوة تجلياته تعالى { وَلاَ يَزْنُونَ } [الفرقان: 68] بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئاً إلا بإذنه تعالى { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } لا يحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } وهو ما لا يقربهم إلى محبوبهم { مَرُّوا كِراماً } [الفرقان: 72] معرضين عنه { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [الفرقان: 73] بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا } من ازدوج معنا وصحبنا وذرايتنا الذين أخذوا عنا { قُرَّةِ أَعْيُنٍ } بأن يوفقوا للعمل الصالح { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [الفرقان: 74] وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين { أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ } وهو مقام العندية { بِمَا صَبَرُواْ } في البداية على تكاليف الشريعة، وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة، وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً } هي أنس الأسرار بالحي القيوم { وَسَلَـٰماً } [الفرقان: 75] وهو سلامة القلوب من خطور القطيعة { خَـٰلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [الفرقان: 76] لأنها مشهد الحق ومحل رضا المحبوب المطلق، نسأل الله تعالى أن يمن علينا برضائه ويمنحنا بسوابغ نعمائه وآلائه بحرمة سيد أنبيائه وأحب أحبائه صلى الله عليه وسلم وشرف قدره وعظم.