التفاسير

< >
عرض

قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ
٢٩
-الشعراء

روح المعاني

{ قَالَ } ضارباً صفحاً عن المقاولة إلى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد: { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له، وفيه أيضاً عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له إلهاً في ذلك الوقت وأن اتخاذه غيره الهاً بعد مشكوك، وبالغ في الإبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضاً فإن أل في (المسجونين) للعهد فكأنه قال: لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل: عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا. هذا وقال بعضهم: السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات، وبهذا ينحل اشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق.

ثم إن العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم رباً هو الله عز وجل أو لا؟ فقال بعضهم: كان يعلم ذلك بدليل { { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الإسراء: 102] ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعماً منه أن فيه الاعتراف بأصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24] إنما كان ارهاباً لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام: لما جاءه في مدين { { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [القصص: 25].

وقال بعضهم: إنه كان جاهلاً بالله تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما فيهما بل كان دهرياً نافياً للصانع سبحانه معتقداً وجوب الوجود بالذات للأفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطراً وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله وكان رباً لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال: { { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص: 38] { { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]، وجوز أن يكون / من الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقداً حلوله عز وجل فيه ولذلك سمى نفسه إلهاً، وقيل: كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: { وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ } [الأعراف: 127] وهو وكذا ما قبله بعيد.

والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عز وجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فاظهر لقومه خلاف علمه فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابـي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر: ما هذا؟ فقال له: لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقداً صدق ذلك الهذيان: سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهراً لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيراً من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفاً مما يتوهمونه من البلية، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسداً كزعم الحلول ونحوه، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فوعون في قوله: { { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24] وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله: { { وَمَا رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الشعراء: 23] كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه، وجواب موسى عليه السلام له لم يكن إلا لابطال ما يدعيه ظاهراً وإرشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه، والتعجيب المفهوم من قوله: { { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } [الشعراء: 25] لزعمه ظاهراً أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه، ولما داخله من خوف إذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله: { { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال: { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم: إنه عليه اللعنة كان دهرياً إلى آخره ما سمعته آنفاً، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم، ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون: { قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ }.