التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥
-النمل

روح المعاني

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدون حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير، وخصها مقاتل بعلم القضاء، وابن عطاء بالعلم بالله عز وجل، ولعل الأولى ما ذكر أو علماً سنياً غزيراً فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عز وجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير؛ وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة، وربما يرجح الثاني، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعاً من العلم والمراد به علم الكيمياء.

{ وَقَالاَ } أي قال كل منهما شكراً لما أوتيه من العلم { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى فَضَّلَنَا } بما آتانا من العلم { عَلَىٰ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازاً، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز، ومن ذلك قوله تعالى: { { يَـٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ } [المؤمنون: 51] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط. وتعقب بأنه إذا سلم ما ذكر فالعطف بالواو أيضاً يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء، وقال العلامة الزمخشري: ((عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك: أعطيته فشكر إشعاراً بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه: ولقد آتيناهما علماً فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا: الحمد لله الذي فضلنا)).

وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح / يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجىء بالواو لأنها تستدعي إضماراً فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله: فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي، وقوله: وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبـي، وبقوله تعالى: { وَقَالاَ } الخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني، وفي الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الإحصاء، ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختيار العطف بالواو أولى مما ذهب إليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الأنواع وعلى ما ذهب إليه يكون بنوع القولي منها وحده، وهو أولى مما قيل أيضاً: إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته، وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا؟ قولان، وممن ذهب إلى الأول من يسمي هذه الواو الواو الفصيحة، والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما عليهما السلام، وقيل: ذاك ومن لم يؤت علماً أصلاً. وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعباده تعالى المؤمنين فإن خلوهم عن العلم بالمرة مما لا يمكن، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل، والمتبادر من البعض القليل، وفي «الكشاف» أن في قوله تعالى: { عَلَىٰ كَثِيرٍ } أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وتعقب بأن فيه نظراً إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فإما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين. ورده صاحب «الكشف» بأن الكثير لا يقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه، ولما بعد تساوى الأكثر من حيث العادة لا سيما والأصل التفاوت حكم صاحب «الكشاف» بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضاً كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه، ألا ترى أنهم إذا قالوا: لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل انتهى.

وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [النساء: 20] الآية: كل الناس أفقه من عمر، وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه، وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب. ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم: أنا عالم. وقد قال ذلك جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما شاع من حديث «من قال أنا عالم فهو جاهل» إنما يعرف من كلا يحيـى بن أبـي كثير موقوفاً عليه على ضعف في إسناده [إليه]، ويحيـى هذا من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبـي صلى الله عليه وسلم، وتحقيقه في «أعذب المناهل» للجلال السيوطي.