التفاسير

< >
عرض

وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
١٥
-القصص

روح المعاني

{ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ } قال ابن عباس على ما في «البحر»: هي منف { عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا } أي في وقت لا يعتاد دخولها، أو لا يتوقعونه فيه، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة. وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة، وذلك أن فرعون ركب يوماً وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت. وقال ابن إسحاق: هي مصر، كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وغاب، فدخلها متنكراً. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له، وبعد عهدهم به. وقيل: دخل في يوم عيد / وهم مشغولون بلهوهم. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين. وقيل: المدينة عين شمس. وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها: حابين. وقيل: هي الإسكندرية، والأشهر أنها مصر، ولعله هو الأظهر.

والمتبادر أن - على حين - متعلق بدخل، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى: { { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } [البقرة: 102] على قول. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من { المدينة }، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلساً اهـ ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل، وقيل: إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصاً في دخولها غافلاً أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلساً كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث.

و { مّنْ أَهْلِهَا } في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر، وقرأ أبو طالب القارىء - على حين - بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراآت الدال في { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [الفاتحة: 2] لمجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل: على حين غفل أهلها فبنى حين كما يبنى إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله:

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وهو كما ترى.

{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين. وقال ابن عطية: في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجىء الحال من النكرة من غير شرط، وقرأ نعيم بن ميسرة (يقتلان) بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف، وقوله تعالى: { هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ } أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في «الإتقان»: هو السامري { وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوّهِ } من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في «الإتقان» أيضاً قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير:

هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إليّ قطينا

وهذه الإشارة قائمة مقام الضمير في الربط، والعطف سابق على الوصفية، واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين، فقيل: كان أمراً دينياً، وقيل: كان أمراً دنيوياً، روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبـى فاقتتلا لذلك، وكان القبطي على ما أخرج ابن أبـي حاتم عن سعيد بن جبير خبازاً لفرعون.

{ فَٱسْتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِى مِن شِيعَتِهِ } أي فطلب غوثه ونصره إياه { عَلَى ٱلَّذِى مِنْ عَدُوّهِ } ولتضمين الفعل معنى النصر عدي بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد: { { ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ } [القصص: 18]، ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قرىء (فاستعانه) بالعين المهملة والنون بدل الثاء، وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه، عن / سيبويه، وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني، وقول ابن عطية أنه ذكرها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه، وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح.

{ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ } أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد. وقال أبو حيان: الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد؛ وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في «القاموس» ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور، وفي كتب التفاسير مسطور.

وقرأ عبد الله (فلكزه) باللام وعنده (فنكزه) بالنون واللكز على ما في «القاموس» الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضاً الضرب والدفع، وقيل: الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: الوكز على القلب واللكز على اللحى. روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام: لقد هممت أن أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام، وكان قد أوتي قوة فوكزه { فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في «الأساس» فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى: { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ } [الحجر: 66] وعود ضمير الفاعل في (قضى) على (موسى) هو الظاهر، وقيل: هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم، وقيل: يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من { وكزه } أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته.

{ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } أي من تزيينه. وقيل: من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى: { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهر العداوة على أن (مبين) صفة ثانية لعدو، وقيل: ظاهر العداوة والإضلال، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو ومضل كل يطلبه صفة له وأياً ما كان فمبين من أبان اللازم.