التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
٢٣
-القصص

روح المعاني

{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ } أي وصل إليه وورد. الورود بمعنى الدخول وبمعنى الشرب وليس شيء منهما مراداً، والمراد بماء مدين بئر كانوا يسقون منها، فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل { وَجَدَ عَلَيْهِ } أي فوق شفيره ومستقاه { أُمَّةً مّنَ ٱلنَّاسِ } أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف، ويشعر بالقيد الأول التنوين، وبالثاني من الناس لشموله للأصناف المختلفة وهي فائدة ذكره، وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر { يَسْقُوْنَ } الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع بمعنى أن منهم من كان يسقي إبلاً ومنهم من كان يسقي غنماً وهكذا، وتخصيص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أي في مكان أسفل من مكانهم، وقيل من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال: المعنى ووجد من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة { ٱمْرَأَتَينِ } اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفا، واسم الأخرى قيل صفوريا وقيل صفوراء وقيل صفيراء، وفي «الكشاف» صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء { تَذُودَانِ } كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء قاله ابن عباس وغيره، وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها. وحكي ذلك عن الزجاج. وقال قتادة: تمنعان الناس عن غنمهما. وقال الفراء: تحبسان غنمهما عن أن تتفرق، وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنماً، والظاهر أن ذلك عن توقيف،، وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذا كما ترى.

{ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي ما مخطوبكما / ومطلوبكما مما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كغيركما؟ وأصل الخطب مصدر خطب بمعنى طلب ثم استعمل بمعنى المفعول. وفي سؤاله عليه السلام إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني. وقرأ شمر { مَا خَطْبُكُمَا } بكسر الخاء، قال في «البحر»: أي من زوجكما؟ ولم لا يسقي هو؟. وهذه قراءة شاذة نادرة اهـ. ولا يخفى ما فيه وإباء الجواب عنه. وقال بعضهم: الخطب فيها بمعنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة، ونظيره الحب بكسر الحاء المهملة بمعنى المحبوب.

{ قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرّعَاء }. أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزاً عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية. وقرأ ابن مصرف { لاَ نَسْقِى } بضم النون من الإسقاء. وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وقتادة والعربيان: ابن عامر، وأبو عمرو { يصدر } بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم. وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى. فأجيب بأن قراءة (يصدر) بفتح الياء تدل على فرط حيائهما وتواريهما من الاختلاط بالأجانب. وقراءة (يصدر) بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء. وقرىء بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي. وقرىء (الرعاء) بضم الراء والمعروف في صيغ الجمع فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور، وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ، وإذا استعمل في معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو اسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلي وقيل إنه جمع ولكن الأصل فيه الكسر، والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتح في نحو سكارى، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في «شرح درة الغواص» والمشهور منها على ما قال ثمانية، وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله:

ما سمعنا كلما غير ثمان هي جمع وهي في الوزن فُعال
فرباب وفرار وتؤام وعرام وعراق ورُخال
وظؤار جمع ظئر وبساط جمع بسط هكذا فيما يُقال

وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضاً قال: لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كقاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس، وقرأ عياش عن أبـي عمرو (الرعاء) بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء.

{ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } إبداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا: إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وذكر بعضهم أنه عليه السلام أخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصداً لأن يجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب / وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك، وقيل: ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى { وأبونا شيخ كبير } أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه، ولعل الأولى أن يقال: إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحياء، والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما، فيه ما يشير إليه لمن له قلب، ويفهم من بيان معنى جوابهما المار آنفاً أن جملة { أبونا شيخ كبير } عطف على مقدر، وجوز أن تكون حالاً أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير.

وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه السلام. { فَانٍ قِيلَ } كيف ساغ لنبي الله تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم؟ فالجواب: أن الأمر في نفسه ليس بمحظور فالدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصاً إذا كانت الحال حال ضرورة، وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه السلام فأخرج سعيد بن منصور وابن أبـي شيبة وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن أبـي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه السلام أثرون بن أخي شعيب النبـي عليه السلام، وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضاً إلا أنه ذكر هٰرون بدل أثرون وحكاه أيضاً عن الحسن إلا أنه ذكر بدله مروان، وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبـي عبيدة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال بلغني أن أبا الإمرأتين ابن أخي شعيب واسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق أن اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه السلام يثرب صاحب مدين، وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن «الكتاب» من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيب عليه السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن أخيه ويحتمل أنه رجل أجنبـي عنه فقد قيل: إن أباهما ليس ذا قرابة من شعيب عليه السلام وإنما هو رجل صالح، وحكى الطبرسي عن بعضهم أن يثرون اسم شعيب وقد أخبرني بعض أهل الكتاب بذلك أيضاً إلا أنه قال هو عندنا يثرو بدون نون في آخره والذي رأيته أنا في الفصل الثاني من السفر الثاني من توراتهم ما ترجمته: ولما سمع فرعون بهذا الخبر أي خبر القتل طلب أن يقتل موسى فهرب موسى من بين يديه وصار إلى بلد مدين وجلس على بئر ماء وكان لإمام مدين سبع بنات فجاءت ودلت وملأت الأحواض لسقي غنم أبيهن فلما جاء الرعاة فطردوهن قام موسى فأغاثهن وسقى غنمهن فلما جئن إلى رعوايل أبيهن قال ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم الخ، وفي أول الفصل الثالث منه ما ترجمته: وكان موسى يرعى غنم يثرو حمية إمام مدين الخ فلا تغفل.

وفي «البحر» عند الكلام في تفسير { { إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ } [القصص: 25] قيل: كان عمها صاحب الغنم وهو المزوج عبرت عنه بالأب إذ كان بمثابته والظاهر أن هذا القائل يقول: إنهما عنتا بالأب هنا العم، وأنت تعلم أن هذا وأمثاله مما تقدم مما لا يقال من قبل الرأي فالمدار في قبول شيء من ذلك خبر يعول عليه والأخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو الأرجح فيما بينها وكأني بك تعول على المشهور الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن أباهما على الحقيقة شعيب عليه السلام إلى أن يظهر لك ما يوجب العدول عنه.