التفاسير

< >
عرض

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ
٧٦
-القصص

روح المعاني

{ إِنَّ قَـٰرُونَ } اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة / { كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } أي من بني إسرائيل كما هو الظاهر، وحكى ابن عطية الإجماع عليه، واختلف في جهة قرابته من موسى عليه السلام فروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جريج وقتادة وإبراهيم أنه ابن عم موسى عليه السلام فموسى بن عمران بن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ابن لاوى بالقصر ابن يعقوب عليه السلام وهو ابن يصهر بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ابن قاهث الخ. وفي «مجمع البيان» عن عطاء عن ابن عباس أنه ابن خالة موسى عليه السلام، وروي ذلك عن أبـي عبد الله رضي الله تعالى عنه. وحكي عن محمد بن إسحاق أنه عم موسى عليه السلام وهو ظاهر على قول من قال: إن موسى عليه السلام ابن عمران بن يصهر بن قاهث وهو ابن يصهر بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري؛ وقال: إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهارون فمالي؟ وروي أنه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأساً فيهم وكان القربان إلى موسى عليه السلام فجعله لأخيه هارون وجد قارون في نفسه فحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شيء إلى متى أصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع الله تعالى قال والله تعالى لا أصدقك حتى تأتي بآية فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجىء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم وعد من تكبره أنه زاد في ثيابه شبراً أو ظلمهم وطلب ما ليس حقه قيل: وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل. وقيل: حسدهم وطلب زوال نعمهم، وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهارون عليهما السلام، والفاء فصيحة أي ضل فبغى، وجوز أن تكون على ظاهرها لأن القرابة كثيراً ما تدعو إلى البغي.

{ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ } أي الأموال المدخرة فهو مجاز بجعل المدخر كالمدفون إن كان الكنز مخصوصاً به، وحكى في «البحر» أنه سميت أمواله كنوزاً لأنها لم تؤد منها الزكاة وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبـى وهو من أسباب عداوته إياه، وقيل: الكنوز هنا الأموال المدفونة وكان كما روي عن عطاء قد أظفره الله تعالى بكنز عظيم من كنوز يوسف عليه السلام { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } أي مفاتح صناديقه فهو على تقدير مضاف أو الإضافة لأدنى ملابسة وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به. وقال السدي: أي خزائنه وفي معناه قول الضحاك أي ظروفه وأوعيته، وروي نحو ذلك عن ابن عباس والحسن، وقياس واحده على هذا المفتح بالفتح لأنه اسم مكان، ويؤيد ما تقدم قراءة الأعمش (مفاتيحه) بياء جمع مفتاح و { مَا } موصولة ثاني مفعولي آتي ومفاتحه اسم إن وقوله تعالى: { لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } خبرها والجملة صلة (ما) والعائد الضمير المجرور، ومنع الكوفيون جواز كون الجملة المصدرة بإن صلة للموصول، قال النحاس: سمعت علي بن سليمان - يعني الأخفش الصغير - يقول ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات أنه لا يجوز أن تكون صلة / الذي إن وما عملت فيه وفي القرآن ما إن مفاتحه انتهى، ولا يخفى أن المانع من ذلك إن كان عدم السماع فالرد عليهم لا يتم إلا بشاهد لا يحتمل غير ذلك و { مَا } في الآية تحتمل أن تكون نكرة موصوفة وإن كان المانع كون إن تقع في ابتداء الكلام فلا ترتبط الجملة المصدرة بها بما قبلها فالرد بالآية المذكورة عليهم تام لأن المانع المذكور كما يمنع كون الجملة صلة يمنع كونها صفة فتدبر.

و { تنوء } من ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله فالباء للتعدية كما في ذهبت به، والعصبة الجماعة الكثيرة من غير تعيين لعدد خاص على ما ذكره الراغب، ومن أهل اللغة من عين لها مقداراً واختلفوا فيه فقيل من عشرة إلى خمسة عشر وهو مروي هنا عن مجاهد، وقيل: ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين وروي ذلك عن الكلبـي، وقيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من عشرة إلى أربعين وروي هذا عن قتادة وقيل: أربعون، وروي ذلك عن ابن عباس. وقيل: سبعون، وروي ذلك عن أبـي صالح مولى أم هانىء وقال الخفاجي: قد يقال إن أصل معناها الجماعة مطلقاً كما هو مقتضى الاشتقاق ثم إن العرف خصها بعدد واختلف فيه أو اختلف بحسب موارده، وقال أبو زيد: تنوء من نؤت بالحمل إذا نهضت به قال الشاعر:

تنوء بأخراها فلأيا قيامها وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

وفي الآية على هذا قلب عند أبـي عبيدة ومن تبعه والأصل تنوء العصبة بها أي تنهض، وقيل: يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها، والأولى ما قدمناه أولاً وهو منقول عن الخليل وسيبويه والفراء واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس وأبـي صالح والسدي.

وقرأ بديل بن ميسرة { لينوء } بالباء التحتية، وخرج ذلك أبو حيان على تقدير مضاف مذكر يرجع إليه الضمير أي ما إن حمل مفاتحه أو مقدارها أو نحو ذلك، وقال ابن جني: ذهب بالتذكير إلى ذلك القدر والمبلغ فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه ونحوه، قول الراجز:

مثل الفراخ نتفت حواصله

أي حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا، وقال الزمخشري: وجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال كقولك ذهبت أهل اليمامة انتهى، وإنما فسر المفاتح بالخزائن دون ما يفتح به ليتم الاتصال فإن اتصال الخزائن بالمخزون فوق اتصال المفاتيح به بل لا اتصال للثاني وحينئذٍ يكتسي التذكير من المضاف إليه كما اكتسى التأنيث من عكسه كالمثال الذي ذكره، وما تقدم عن غيره أولى. قال في «الكشف» لأن تفسير المفاتح بالخزائن ضعيف جداً لفوات المبالغة، وقيل: إن المفاتح بذلك المعنى غير معروف وقد سمعت أنه تفسير مأثور فإذا صح ذلك فلا يلتفت إلى ما ذكر من هذا وكلام «الكشف»، وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ { ما إن مفتاحه } على الإفراد فلا تحتاج قراءته { لينوء } بالياء إلى تأويل، وقد بولغ في كثرة مفاتيحه فروي عن خيثمة أنها كانت وقر ستين بغلاً أغر محجلاً ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز، وفي رواية أخرى عنه كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغر محجلاً.

وفي «البحر» ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه، ومما لا مبالغة فيه ما روي عن ابن عباس من أن المفاتح الخزائن وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف وعليه فأمثال قارون في الناس أكثر من خزائنه، ولعل الآية تشير إلى ما أوتيه فوق ذلك، ولا أظن الأمر كما روي عن خيثمة، وأبعد أبو مسلم في تفسير الآية فقال: المراد من المفاتح العلم والإحاطة / كما في قوله تعالى: { { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام: 59] والمراد وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها القائمين على حفظها.

{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ }. قال الزمخشري: هو متعلق بتنوء وضعف بأن أثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه، وقال ابن عطية: ببغى، وضعف بنحو ذلك، وقال أبو البقاء: بآتينا، ويجوز أن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الكلام أي بغى عليهم إذ قال، وفي كل منهما ما سبق، وقال الحوفي منصوب باذكر محذوفاً، وجوز كونه متعلقاً بما بعده من قوله تعالى: { { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ } [القصص: 78] والجملة مقررة لبغيه ورجح تعلقه بمحذوف والتقدير أظهر التفاخر والفرح بما أوتي إذ قال له قومه { لاَ تَفْرَحْ } لا تبطر والفرح بالدنيا لذاتها مذموم لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتماً كما قال أبو الطيب:

أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا

وقال ابن شمس الخلافة:

وإذا نظرت فإن بؤساً زائلاً للمرء خير من نعيم زائل

ولذلك قال عز وجل: { { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ } [الحديد: 23] والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير قال الشاعر:

ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب

وقال آخر:

إن تلاق منفساً لا تلقنا فرح الخير ولانكبو لضر

وعلل سبحانه النهي هٰهنا بكون الفرح مانعاً من محبته عز وجل فقال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } فهو دليل إنيِّ على كون الفرح بالدنيا مذموماً شرعاً، وإنما قلنا: إن الفرح بها لذاتها مذموم لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم، ومحبة الله تعالى عنه كثير صفة فعل أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا ينعم جل شأنه عليهم ولا يقربهم عز وجل، والمراد أنه تعالى يبغضهم ويهينهم ويبعدهم عن حضرته سبحانه، وقال بعضهم: إن في نفي محبته تعالى إياهم تنبيهاً على أن عدم محبته تعالى كاف في الزجر عما نهى عنه فما بالك بالبغض والعقاب وهو حسن، وحكى عيسى بن سليمان الحجازي أنه قرىء { الفارحين }.