التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّٰكِرِينَ
١٤٥
-آل عمران

روح المعاني

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } استئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية. ويجوز أن يكون تسلية عما لحق الناس بموت النبـي صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه عليه السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك دينه بعد موته. والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبـي عليه الصلاة والسلام كما روي عن ابن إسحق ليس بشيء، والموت هنا أعم من الموت حتف الأنف والموت بالقتل، كما سنحققه، وكان ناقصة اسمها أن تموت ولنفس متعلق بمحذوف وقع خبراً لها، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب. وذهب أبو البقاء إلى أن (بإذن الله) خبر كان ولنفس متعلق بها واللام للتبيين، ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف تقديره الموت لنفس، و { أَنْ تَمُوتَ } تبيين للمحذوف، وحكي عن الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقدير ـ وما كان نفس لتموت ـ ثم قدمت اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير، والمعنى ما كان الموت حاصلاً لنفس من النفوس مطلقاً بسبب من الأسباب إلا بمشيئة الله تعالى وتيسيره.

و ـ الإذن ـ مجاز عن ذلك لكونه من لوازمه، وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي قدم عليها اختياراً فقد شاع استعمال ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما إذا كان ذلك الفعل اختيارياً لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل الاختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالإذن. والمراد عدم القدرة عليه، أو بتنزيل إقدام النفوس على مباديه كالقتال مثلاً منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة أو تحقيق المرام فإن موتها لما استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، ويجوز على هذا أن يبقى الإذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم به، والمراد / بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح كل ذي روح بشراً كان أو لا شهيداً كان أو غير شهيد، براً أو بحراً حتى قيل: إنه يقبض روح نفسه، واستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة واستدل بحديث جويبر ـ وهو ضعيف جداً ـ وفيه من طريق الضحاك انقطاع، وذهب المعتزلة إلى أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم، وقال بعض المبتدعة: إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم الذين يقبضونها ولا تعارض بين { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [الزمر: 42] و { يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [السجدة: 11] و { { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام: 61] لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي، وإلى الملك لأنه المباشر له، وإلى الرسل لأنهم أعوانه المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق.

{ كِتَـاباً } مصدر مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة والمعنى كتب ذلك الموت المأذون فيه كتاباً { مُّؤَجَّلاً } أي موقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وقيل: حكماً لازماً مبرماً وهو صفة كتاباً ولا يضر التوصيف بكون المصدر مؤكداً بناءاً على أنه معلوم مما سبق وليس كل وصف يخرج عن التأكيد، ولك ـ لما في ذلك من الخفاء ـ أن تجعل المصدر لوصفه مبيناً للنوع وهو أولى من جعله مؤكداً، وجعل { مُّؤَجَّلاً } حالاً من الموت لا صفة له لبعد ذلك غاية البعد فتدبر. وقرىء { مُؤَجلاً } بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف.

وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين أن المقتول ميت بأجله أي بوقته المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا بالحياة، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبـي منهم إلى أن المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه أي مفعوله وأثر صفته، وأن للمقتول أجلين: أحدهما: القتل والآخر: الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، وذهب أبو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت. وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل، وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظياً كما رآه الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا: إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتاً بأجله بلا خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتاً بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل، وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتاً بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى: { { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34] ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل يعش كذا في «شرح المقاصد»، ولعله جواب باختيار الشق الأول، وهو أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقاً بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذٍ يصلح محلاً للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه، وقد يقال: إنه يمكن أن يكون جواباً باختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم مطلقاً / والفرق بينه وبين كونه جواباً باختيار الأول لكن لا مطلقاً اعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير اختيار الأول وعدم اعتباره فيه على اختيار الثالث وإن كان معلوماً في الواقع أيضاً فافهم، ثم إن أبا الحسين ومن تابعه يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض، وعند البعض الآخر هي عندهم استدلالية.

واحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتاً بأجله لم يستحق القاتل ذماً ولا عقاباً ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع أجلاً ولم يحدث بفعله موتاً، وبأنه ربما يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بامتناع اتفاق موتهم في ذلك الوقت بآجالهم، وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت المقتول لكان القاتل قاطعاً لأجل قدره الله تعالى ومغيراً لأمر علمه وهو محال، والكعبـي بقوله تعالى: { { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [آل عمران: 144] حيث جعل القتل قسيماً للموت بناءاً على أن المراد بالقتل المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان للمقتول أجلان: أحدهما: القتل، والآخر: الموت.

وأجيب عن متمسك الأولين: الأول: بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى: { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34] أو بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو المقصود الأهم منه وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية، أو بأن العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت، وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا، ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة، ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه. والعمر لغة مدة الحياة ـ كعمر زيد ـ كذا ومدة البقاء ـ كعمر الدنيا ـ وكثيراً ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير بعد موته، ومنه قولهم: ذكر الفتى عمره الثاني؛ ومن هنا يقال لمن مات وأعقب ذكراً حسناً وأثراً جميلاً: ما مات، فلعله أراد صلى الله عليه وسلم أن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها تكون سبباً للذكر الجميل، وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه قيل: ولهذا لم يقل صلى الله عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في الأجل، أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلاً لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناءاً على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة.

ومحصل هذا أنه سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سبباً لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة سبعين، وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به. والثاني: بأن استحقاق الذم والعقاب وتوجه القصاص أو غرم الدية مثلاً على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما اكتسبه وارتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم موت شاة بإخبار صادق معصوم، أو ظهرت الإمارات المفيدة لليقين لم يضمن عند بعض الفقهاء، والثالث: بأن العادة منقوضة أيضاً بحصول موت ألوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في أيام الوباء مثلاً على أن / التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا المطلب في غاية السقوط.

وأجيب عن متمسك أبـي الهذيل بأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذٍ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا استحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له، وعن متمسك الكعبـي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت وانزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [آل عمران: 144] خلاف مذهبه من إنكار القضاء والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده، ومعنى الآية ـ كما أشرنا إليه ـ أفئن مات حتف أنفه بلا سبب، أو مات بسبب القتل، فتدل على أن مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل: إن في المقتول معنيين قتلاً هو من فعل الفاعل وموتاً هو من الله تعالى وحده.

وذهبت الفلاسفة إلى مثل ما ذهب إليه الكعبـي من تعدد الأجل فقالوا: إن للحيوان أجلاً طبيعياً بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجالاً اخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات، وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة وكلما انتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى إذا انتهت في الانتقاص وتزايد الجفاف انطفأت الحرارة كانطفاء السراج عند نفاد دهنه فحصل الموت الطبيعي وهو مختلف بحسب اختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في الأغلب تمام مائة وعشرين سنة. وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحر المذوب وأنواع السموم وأنواع تفرق الاتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها اعتدال المزاج فيهلك بسببه وهذا هو الأجل الاخترامي، ويرد ذلك أنه مبني على قواعدهم من تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا.

وادعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع بيننا وبين المعتزلة ـ على رأي الأستاذ ـ لفظي إذ هم لا ينكرون القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه بأي سبب كان واحد عندهم أيضاً، وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن لا ننكره أيضاً لكنهم يجعلون اعتدال المزاج واستقامة الحرارة والرطوبة ونحو ذلك شروطاً حقيقة عقلية لبقاء الحياة ونحن نجعلها أسباباً عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب.

{ وَمَن يُرِدِ } أي بعمله كالجهاد { ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } كالغنيمة { نُؤْتِهِ } بنون العظمة على طريق الالتفات { مِنْهَا } أي شيئاً من ثوابها إن شئنا فهو على حدّ قوله تعالى: { { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } [الإسراء: 18] وهذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد عن مصلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم تفصيل ذلك. { وَمَن يُرِدِ } أي بعمله كالجهاد أيضاً والذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. { ثَوَابَ ٱلأَْخِرَةِ } مما أعدّ الله تعالى لعباده فيها من النعيم { نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي من ثوابها ما نشاء حسبما جرى به قلم الوعد الكريم، وهذا إشارة إلى مدح الثابتين يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية / وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال.

{ وَسَنَجْزِى ٱلشَّـٰكِرِينَ } يحتمل أنه أريد بهم المريدون للآخرة، ويحتمل أنه أريد بهم جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يضيق عنه نطاق البيان ما لا يخفى، وبذلك جبر اتحاد العبادتين في شأن الفريقين واتضح الفرق لذي عينين، وقرئت الأفعال الثلاثة بالياء.

هذا ومن باب الإشارة: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَـٰفاً مُّضَـٰعَفَةً } إما إشارة إلى الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والانقطاع إليه، أو رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب نفع منهم، فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة، أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضاً لإظهار العبودية { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } من أكل الربا { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 130] أي تفوزون بالحق { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـٰفِرِينَ } [آل عمران: 131] أي اتقوني في النار لأن إحراقها وعذابها مني، وهذا سرّ عين الجمع قالوا: ويرجع في الحقيقة إلى تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام والتخويف الأول للخواص، وقليل ما هم { وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وهي ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأْرْضُ } وهي جنة توحيد الأفعال وهو توحيد عالم الملك، ولذا ذكر سبحانه السماوات والأرض وذكر العرض دون الطول لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام الناس ويقدرونه، وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر قدرها إذ الفعل مظهر الوصف، والوصف مظهر الذات، والذات لا نهاية لها ولا حد { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91] فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولاً وعرضاً { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133] حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله، ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر. وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله عليه وسلم "سبحانك ما عرفناك حق معرفتك" فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين، ولهذا قيل: ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ودعاهم أيضاً إلى ما يجرّهم إلى الجنة، والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته، وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار، ومن هنا قيل: ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصح به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الإلۤهية (الذين ينفقون) نفائس نفوسهم لمولاهم (في السراء والضراء) في حالتي الجمال والجلال، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه { وَٱلْكَـاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون بالشدّ عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم، / وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها { وَٱلْعَـافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال، أو لأنهم في مقام توحيد الصفات { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134] حسب مراتبهم في الإحسان { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـاحِشَةً } أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها { ذَكَرُواْ ٱللَّهَ } أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه { فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ } وهي رؤية الأفعال أو النظر إلى سائر الأغيار { إِلاَّ ٱللَّهُ } وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } في غفلتهم ونقصوا حق نفوسهم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 135] حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره { أُوْلَـٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ } وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه { وَجَنَّـٰتٍ } أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية { خَـالِدِينَ فِيهَا } بلا مكث ولا قطع ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير { { وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـامِلِينَ } [آل عمران: 136] ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد { فَسِيرُواْ } بأفكاركم { فِى ٱلأَْرْضِ فَٱنظُرُواْ } وتأملوا في آثارها لتعلموا { كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } [آل عمران: 137] أي آخر أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب ويحتمل أن يكون هذا أمراً للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ماذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها { هَـٰذَا } أي كلام الله تعالى { بَيَانٌ لّلنَّاسِ } يبين لهم حقائق أمور الكونين { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يتوصل به إلى الحضرة الإلهية { لّلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 138] وهم أهل الله تعالى وخاصته. واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه بأسماع العقول، ومنهم قوم يسمعونه بأسماع الأسرار، وحظ الأولين منه الامتثال والاعتبار، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربـي أهل اصطفائه فشاهدوا أنواراً تجلى وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى { وَلاَ تَهِنُواْ } أي لا تضعفوا في الجهاد { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الأخوان { وَأَنتُمُ الأَْعْلَوْنَ } في الرتبة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 139] أي موحدين حيث أن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } ولم يبالوا مع أنهم دونكم { وَتِلْكَ ٱلأَْيَّامُ } أي الوقائع { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } فيوم لطائفة وآخر لأخرى { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [آل عمران: 140] أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها { وَلِيُمَحّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية { وَيَمْحَقَ } أي يهلك { ٱلْكَـٰفِرِينَ } [آل عمران: 141] بنار أنانيتهم { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ } أي تلجوا عالم القدس { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـابِرِينَ } [آل عمران: 142] أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ } أي موت النفوس عن صفاتها { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } بالمجاهدات والرياضات { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [آل عمران: 143] أي تعلمون أن / ذلك الجهاد أحد أسباب موت النفس عن صفاتها، ويحتمل أن يقال: إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكة تمنى أموراً وادعى أحوالاً حتى إذا امتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه، ومن هنا قيل:

وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا

ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاماً ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الامتحان، والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاماً { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } أي أنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم { أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ } ورجعتم القهقرى، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً } لفنائه الذاتي { وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ } بالإيمان الحقيقي { { ٱلشَّـٰكِرِينَ } [آل عمران: 144] بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ } هذا الموت المعلوم، أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } ومشيئته، أو جذبه باشراق نوره { وَمَن يُرِدْ } بمقتضى استعداده { ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } جزاءاً لعمله { نُؤْتِهِ مِنْهَا } حسبما تقتضيه الحكمة { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلأَخِرَةِ } جزاءاً لعمله { نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى ٱلشَّـٰكِرِينَ } [آل عمران: 145] ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية، وأبهم جزاءهم للاشارة إلى أنه أمر وراء العبارة ـ ولعله تجلى الحق لهم ـ وهذا غاية متمنىٰ المحبين ونهاية مطلب السالكين، نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه.