التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٥٥
-آل عمران

روح المعاني

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ } الدبر عن المشركين بأحد { مّنكُمْ } أيها المسلمون، أو إن الذين هربوا منكم إلى المدينة { يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } وهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أبـي سفيان. { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه، وحينئذٍ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة ـ ومعنى السببية ـ انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن، وإما مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج: إن الشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله:

إن التي ضربت بيتاً مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول

وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلنَّعِيمِ } [لقمان: 8] لأن { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } يأباه ويحقق التحقيق، وهو أيضاً من باب الترديد للتعليق كقوله:

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء

لأن { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ } الخ خبر إن وزيد ـ إن ـ للتوكيد وطول الكلام، و ـ ما ـ لتكفها عن العمل، / وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض الخ فهو كقولك: إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [فاطر: 45].

{ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ }. أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيداً لطمع المذنبين فيه ومنعاً لهم عن اليأس وتحسيناً للظنون بأتم وجه، وقد يقال: هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } للذنوب صغائرها وكبائرها { حَلِيمٌ } لا يعاجل بعقوبة المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبـي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفساً خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبـي وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد ذهبتم بها عريضة، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافاً للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة.