التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٣٠
-آل عمران

روح المعاني

{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس المكلفة. { مَّا عَمِلَتْ } في الدنيا { مّنْ خَيْرٍ } وإن كان مثقال ذرة { مُّحْضَرًا } لديها مشاهداً في الصحف، وقيل: ظاهراً في صور، وقيل: تجد جزاء أعمالها محضراً بأمر الله تعالى، وفيه من التهويل ما ليس في ـ حاضراً ـ وهو مفعول ثان لتجد { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } عطف على { مَّا عَمِلَتْ } و { مُّحْضَرًا } محضر فيه معنى إلا أنه خص بالذكر في ـ الخير ـ للإشعار بكون الخير مراداً بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية ـ كما قال شيخ الإسلام ـ وتقدير { مُّحْضَرًا } في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز ـ كما في «الدر المصون» ـ ولم يجعلوه من قبيل ـ علمت زيداً فاضلاً وعمراً ـ وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول بل من قبيل ـ زيد قائم وعمرو ـ وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به فيلزم الاقتصار ضرورة، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا الباب وهم، ولك أن تجعل { تَجِدُ } بمعنى تصيب فيتعدى لواحد، و { مُّحْضَرًا } حال { تَوَدُّ } أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى يوم ذلك. { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } أي بين ذلك اليوم { أَمَدَا بَعِيدًا } وقيل: الضمير ـ لما عملت ـ لقربه ولأن اليوم أحضر فيه الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقاً فلا يحسن إرجاع الضمير ـ اليوم ـ وإلى ذلك ذهب في «البحر»،/ ورد بأنه أبلغ لأنه يودّ البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما فيه من السوء.

و ـ الأمد ـ غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ـ ولعله الأظهر ـ، فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } [الزخرف: 38] وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال أبو حيان: إنه الظاهر في بادىء الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميراً عائداً على ما اتصل به معمول الفعل المتقدم نحو غلام هند ضربت هي، والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيودّ عائد على شيء اتصل بمعمول ـ يودّ ـ وهو يوم لأنه مضاف إلى { تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ }، والتقدير: تودّ كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر محضراً لو أن بينها الخ؛ وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح، ومنه قوله:

ـ أجل المرء يستحث ـ ولا يد ري ـ إذا يبتغي حصول الأماني ـ

أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، والفراء والأخفش وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه وفي الآية أوجه أخر: منها أن ناصب الظرف { قَدِيرٌ } [آل عمران: 29]، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى، ومنها أنه منصوب بالمصير أو بالذكر أو بيحذركم مقدراً فيكون مفعولاً به أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو ـ اذكروا ـ يجوز في { مَّا عَمِلَتْ } أن يكون مبتدأ خبره جملة { تَوَدُّ } وأن يكون معطوفاً على { مَا } الأولى، وجملة { تَوَدُّ } إما مستأنفة جواباً لسؤال مقدر كأن سائلاً قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم: فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل: { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا } الخ، أو حال من فاعل { تَجِدُ } أي ـ اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضراً وادّت تباعد ما بينها وبينه ـ وجوز أن يكون حالاً من ضمير { عَمِلَتْ } لقربه، واعترض بأن ـ الوداد ـ إنما هو وقت وجدان العمل حاضراً في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير { عَمِلَتْ } تقتضيه فلا وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى: يوم تجد كل نفس كذا مقدراً وداده ـ أي حال كونه ثابتاً في قدرنا وداده ـ فالوداد وإن لم يكن مقارناً للعمل إلا أن كون الوداد ثابتاً في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى: { وَبَشَّرْنَـٰهُ بِإِسْحَـٰقَ نَبِيّاً مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } [الصافات: 112]، واعترض أيضاً بأنه على تقدير الحالية من ضمير { عَمِلَتْ } يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز أيضاً أبو البقاء أن تكون (ما) في { مَّا عَمِلَتْ مِنْ سُوء } شرطية ـ وإلى ذلك مال السفاقسي ـ ورفع { تَوَدُّ } ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاذ كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير:

(وإن) أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم

/فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } [النساء: 78] يرفع يدرك عليه، وأجيب بأنا لا نسلم الشذوذ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيراً في لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول أبـي صخر:

ولا بالذي إن بان منه حبيبه يقول ويخفى الصبر إني لجازع

وقول الآخر:

إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب إخبار

برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط، وقوله:

وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظر

إلى غير ذلك، وفي «البحر»: إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في الآية جزاءاً لما ذكر سيبويه أن النية في المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب وحينئذٍ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير ـ وبينه ـ عائد على اسم الشرط وهو { مَا } فيصير التقدير ـ تودّ كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ـ وذلك لا يجوز، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور أيضاً لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الأكثر، وإن كان متقدماً عليه في النية، وقرأ عبد الله ـ ودّت ـ وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثاني قال: إن في الصحة كلاماً لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على { تَجِدُ } والشرطية لا تقع حالاً ولا مضافاً إليها الظرف فلا يبق إلا عطفها على اذكر ـ وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى ـ وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالاً بتقدير مبتدأ أي ـ وهي ما عملت من سوء ودّت ـ ولا يخفى ما فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها، وقال غير واحد من الأئمة: إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لأنه كلام ـ كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم ـ فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه، وحديث الاستقبال يدفعه تقدير ـ وما كان عملت كما في نظائر له، فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء.

{ وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } قيل: ذكره أولاً للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثاً على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقاً. وجوز أن يكون معطوفاً على { تَوَدُّ } أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء ويحذركم الله نفسه بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على { تَجِدُ } والظرف معمول ـ لاذكروا ـ أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته، وقد يقال: إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده.

وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِٱلْعِبَادِ } من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنياً على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضاً./ فالجملة على الأول تذييل وعلى الثاني حال، وإلى الأول يشير كلام الحسن رضي الله تعالى عنه، و ـ أل ـ في العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجه الذهن إلى هذا الحكم أتم توجه.