{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه:
{ فَأَحْكُمُ } [آل عمران: 55] وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: { فِى ٱلدُّنُيَا وَٱلأَْخِرَةِ }؟ وأجيب بوجوه الأول: أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني: أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جداً. الثالث: ما ذكر صاحب «الكشف» من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [آل عمران: 55] غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لِغُنْمِ الدارين، ولا يخفى أن في لفظ { كُنتُمْ } في قوله جل وعلا: { { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [آل عمران: 55] بعض نبوة عن هذا المعنى، وأن المعنى ـ أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا ـ. الرابع: أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في «الكشف»: وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جداً إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة. الخامس: أن في الدنيا والآخرة متعلق ـ بشديد ـ تشديداً لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى. والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى
{ ثُمَّ } [آل عمران: 55] على التراخي الرتبـي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذٍ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخراً عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: { { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [آل عمران: 55] غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذلالهم بالقتل والأسر والسبـي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذاباً، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار. { وَمَا لَهُم مّن نَّـٰصِرِينَ } أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع ـ كما قال مولانا مفتي الروم ـ لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد.