التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٤
-الروم

روح المعاني

{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } ذهب أبو علي إلى أنه بتقدير أن المصدرية والأصل أن يريكم فحذف أن وارتفع الفعل وهو الشائع بعد الحذف في مثل ذلك، وشذ بقاؤه منصوباً بعده وقد روي بالوجهين قول طرفة:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وجوز كونه مما نزل فيه الفعل منزلة المصدر فلا تقدر أن بل الفعل مستعمل في جزء معناه وهو الحدث مقطوع فيه النظر عن الزمان فيكون اسماً في صورة الفعل فيريكم بمعنى الرؤية، وحمل على ذلك في المشهور قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وجوز فيه أن يكون مما حذف فيه أن وأيد بأنه روي فيه تسمع بالنصب أيضاً ولم يرتضه بعض الأجلة لأن المعنى ليس على الاستقبال، وأما أن تراه فالاستقبال فيه بالنسبة إلى السماء فلا ينافيه، ومثله قوله:

فقالوا ما تشاء فقلت ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير

ورجح الحمل على التنزيل منزلة اللازم دلالة على أنه كالحال اهتماماً بشأن المراد لقوله: آثر ذي أثير، والتعليل بأن ما تشاء سؤال عما يشاؤه في الحال وأن للاستقبال ليس بالوجه لأن المشيئة تتعلق بالمستقبل أبداً، وقال الجامع الأصفهاني: تقدير الآية ومن آياته آية يريكم البرق على أن { يُرِيكُمْ } صفة وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه كما في قوله:

وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

أي فمنهما تارة أموت قيل فلا بد من راجع فقدر فيها أو بها، ونص على الثاني الرماني كما في «البحر» وكلاهما لا يسد ـ كما في «الكشف» ـ عليه المعنى، وقيل: التقدير ومن آياته البرق ثم استؤنف يريكم البرق، وقيل: { مّنْ ءايَـٰتِهِ } حال من البرق أي يريكم البرق حال كونه من آياته، وجوز أبو حيان تعلقه بيريكم و { مِنْ } لابتداء الغاية وفيه مخالفة لنظرائه. وفي «الكشف» لعل الأوجه أن يكون { مّنْ ءايَـٰتِهِ } خبر مبتدأ محذوف أي من آياته ما يذكر أو ما يتلى عليكم ثم قيل: { يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } بياناً لذلك ثم قال: وهذا أقل تكلفاً من الكل، وأنت تعلم أن الأوجه ما توافق الآية به نظائرها.

{ خَوْفًا } أي من الصواعق { وَطَمَعًا } في المطر قاله الضحاك، وقال قتادة: خوفاً للمسافر لأنه علامة المطر وهو يضره لعدم ما يكنه ولا نفع له فيه وطمعاً للمقيم، وقيل: خوفاً أن يكون خلباً وطمعاً أن يكون ماطراً وقال ابن سلام: خوفاً من البرد أن يهلك الزرع وطمعاً في المطر ونصبهما على العلة عند الزجاج، وهو على مذهب من لا يشترط في نصب المفعول له اتحاد المصدر والفعل المعلل في الفاعل ظاهر، وأما على مذهب الأكثرين المشترطين لذلك فقيل في توجيهه: إن ذلك على تقدير مضاف أي إرادة خوف وطمع أي على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع أما بأن يجعل أصلهما ذلك على حذف الزوائد أو بأن يجعلا مجازين عن سببيهما. وقيل: إن ذلك لأن إراءتهم تستلزم رؤيتهم فالمفعولون فاعلون في المعنى فكأنه قيل: لجعلكم رائين خوفاً وطمعاً. واعترض بأن الخوف والطمع ليسا غرضين للرؤية ولا داعيين لها بل يتبعانها فكيف يكونان علة على فرض الاكتفاء بمثل ذلك عند المشترطين، ووجه بأنه ليس المراد بالرؤية مجرد وقوع البصر بل الرؤية القصدية بالتوجه والالتفات فهو مثل قعدت عن الحزب جبناً ولم يرتض ذلك أبو حيان أيضاً ثم قال: لو قيل على مذهب المشترطين أن التقدير يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً فحذف العامل للدلالة عليه لكان إعراباً سائغاً، وقيل: لعل الأظهر / نصبهما على العلة للإراءة لوجود المقارنة والاتحاد في الفاعل فإن الله تعالى هو خالق الخوف والطمع، وكون معنى قول النحاة لا بد أن يكون المفعول له فعل الفاعل أنه لا بد من كونه متصفاً به كالإكرام في قولك: جئتك إكراماً لك إن سلم فلا حجر من الانتصاب على التشبيه في المقارنة والاتحاد المذكور.

وتعقب بأن كون المعنى ما ذكر مما لا شبهة فيه وقد ذكره صاحب «الانتصاف» وغيره فإن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي فالتوقف فيه وادعاء أنه لا حجر من الانتصاب على التشبيه مما لا وجه له، وأنا أميل إلى عدم اشتراط الاتحاد في الفاعل لكثرة النصب مع عدم الاتحاد كما يشهد بذلك التتبع والرجوع إلى «شرح الكافية» للرضى، والتأويل مع الكثرة مما لا موجب له، وجوز أن يكون النصب هنا على المصدر أي تخافون خوفاً وتطمعون طمعاً على أن تكون الجملة حالاً، وأولى منه أن يكونا نصباً على الحال أي خائفين وطامعين.

{ وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } وقرأ غير واحد بالتخفيف { فَيُحْيىِْ } أي بسبب الماء { ٱلأَرْضِ } بأن يخرج سبحانه به النبات { بَعْدَ مَوْتِهَا } يبسها { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع جل شأنه وحكمته سبحانه، وقال الطيبـي: لما كان ما ذكر تمثيلاً لإحياء الناس وإخراج الموتى وكان التمثيل لإدناء المتوهم المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لقوم يعقلون.